سليم الصّايغ... وطنيّةٌ ونزاهةٌ وفِكر

كتب الدكتور جورج شبلي:

لا شكّ في أنّ اللبنانيين يشكّلون، في غالبيّتهم، مجموعةً ترفض الخنوع، والقهر، والإخضاع، بالرّغم من أنّهم مسكونون بالفرديّة، وذلك بحكم الموروث الطويل. لذلك، آمنوا بأنّ التغيير سوف يقوده السياديّون المُخلِصون، من مثل الدكتور سليم الصّايغ، الذين يعتبرون أنّ تَعافي الوضع اللبناني ليس أمراً مستحيلاً، بل يحتاج الى قرارٍ صائبٍ، وسلوكٍ نزيه، ما يؤدّي، حتماً، الى لجم المسار الإنحداري، وضبط استشراء الفساد في البلاد.


إزاءَ الأوضاع المقلقة، سياسياً، واقتصادياً، ونقدياً، واجتماعياً، برز رجلٌ ميزاتُهُ المصداقيّة، والصراحةُ، والجرأة، والمسؤولية، والفَهم، قاربَ الأحوالَ المتردّيةَ التي أودَت بالناسِ الى ما هم عليه من يأسٍ، وبؤسٍ، وإحباط، وعقدَ العزمَ على اقتراحِ حلولٍ تساهمُ في معالجةِ الأزمةِ المستشرية، بواقعيّةٍ، وموضوعيّةٍ، محرِّكُهُ الأساسيّ حِسُّهُ الوطنيّ، وفكرُهُ النيِّر. إنّه الدكتور سليم الصّايغ، صاحبُ الحُضورِ الرّاقي، والمُبادِرُ الواعي لرؤيةٍ مُثلى تضعُ الإصبعَ على الجراح، وما أكثرَها، وتقدّمُ سُبُلَ العلاج، بمهنيّةٍ مجَرَّبة، وبنظرٍ ثاقِب.


إنّ آفاقَ البلادِ، على الصعيد الإقتصادي خصوصاً، لا تسمح بتفاؤلٍ موضوعيّ، نتيجةَ سلوكِ العجز الذي انتهجه القيّمونَ على المسؤولية في الدولة. لذا، رأى الدكتور الصّايغ، ومن ضمنِ خطّةِ حزبِ الكتائب، انّه لا بدّ من تحرّكٍ واعٍ، وناضج، ينظّمُ برنامجَ التصَدّي للأزمة بهدفِ الحدِّ من الإنهيارِ المتمادي. إنّ أبرزَ تداعيات الإنهيار هو تَسارعُ موجة الهجرة التي أفرغت البلاد من العقول والأيدي العاملة الشابّة، وهذه ظروفٌ مأسوية، لم يتوقّف الصّايغ عن متابعةِ اهتمامه المتواصل، بها، ولطالما وصفَها بأنّها الخطُّ الأحمرُ الذي ينبغي، إزاءَه، دَقُّ جرسِ الإنذار، بل الخطر، لأنّ مجرياتِه تأتي بنتائجَ مدمِّرةٍ للوطن، حاضراً، وفي الآتي من الأيام.


لقد اتّسمت مسيرةُ الدكتور سليم الصّايغ الوطنيّة، والحزبيّة، بتجذّرِ انتمائه الى لبنان، وبرصيده في الولاء والوفاء لبلدٍ شقَّ منه طريقه الى النجاح، متميّزاً بطموحٍ راسخ، وباستقامةٍ وأمانةٍ وثَبات. هذا الرّصيدُ الذي واكبَ الصّايغ في مسيرته المهنيّة، والوطنيّة، والحزبيّة، أمّن له علاقاتٍ مُعتَبَرَةً مع مرجعيّاتٍ مرموقةٍ في الدّاخلِ، وفي دُوَلِ العالم، فكانت له صداقاتٌ نسجَها بنُبلٍ، مع رجالاتٍ بارزين، بادلوه بالإحترامِ وبتعزيز الإعتراف بالمكانة الوطنيّةِ لهذا الرَّجلِ الذي لم يتوانَ في الدّفاعِ عن القضيةِ اللبنانيّة، مؤكِّداً على أنّ مشكلةَ البلد الأساسية تَكمنُ في وجودِ دويلةٍ داخل الدولة، تعملُ على استجلابِ مشروعٍ هجينٍ ينهي الصّيغةَ، ويسوق الوطنَ الى عصورِ الإنحطاط.


لم يفكّر الدكتور الصّايغ، يوماً، بغير الإنسان الذي كان محورَ اهتمامه، وقال إنّ أيَّ نشاطٍ لا يكون الإنسان هدفَه، هو نشاطٌ فاشلٌ لا معنى له. وهذا الإقتناعُ الراسخُ كان في أساس مقاربته لكلّ المسائلِ الإجتماعية، وتعاطيه مع الناس، ومبادراتِه الخِدماتيّة، في مسارٍ من العملِ الدّؤوب، خصوصاً عندما تبوَّأَ وزارةَ الشّؤون الإجتماعية، وذلك، بعيداً عن حبِّ الظّهور الذي يسعى إليه الكثيرون. وفي موقعِهِ كَمسؤول، كان الصّايغ المأخوذُ بفلسفةِ الإنسان، مثابراً على الوقوف الى جانبِ الناس، كلِّ الناس، الى أيِّ مَشربٍ انتموا، لأنه يؤمنُ بأنّ فرحَ المُعطي يكونُ أكبرَ من سعادةِ الآخِذِ بمرّاتٍ عديدة.


أمّا تعاطي الدكتور الصّايغ بالشأن العام، فبدأ، حتماً، قبلَ نيّتِهِ بالترشّحِ الى النيابة، وهذا قرارٌ سَديدٌ تُهَنَّأُ القيادةُ الكتائبيّةُ على اتّخاذِه. لقد شقَّ طريقَه في النّضالِ الوطنيّ بجرأة، وثقة، مكتسِباً تَقديرَ الأقربين والأبعدين، وبنزاهةٍ، ووَعيٍ، هما رأسُماله في عملِهِ السياسيّ النّظيف. لقد دافع الصّايغ عن الصيغة اللبنانية الفريدة، القائمة على الشّركةِ والعيشِ الواحد، في دولةٍ سيّدةٍ، محايدةٍ، تنأى عن الصراعاتِ وتلتزمُ المواثيقَ العربيةَ والدوليّة، من دون أن يكون حيادُها قوقعةً أو تخلّياً عن القضايا المحِقَّة.


في الندوة الحكوميّة، لم يكن الدكتور الصّايغ أَخرسَ الصّوت، فالدفاعُ عن حقوق الناسِ، من خلالِ واجباتِ الدولة، كان حِراكَه الدّائم، فهو استمرَّ في توصيفِ الأزماتِ التي تتوالَى على الشَّعبِ وتُنهكُه، ولم يتردّدْ في طرحِ الوَصفاتِ المُجدِية لمعالجةِ ما يُنَغِّصُ الناس، وهم كَبِشُ محرقةٍ بتقاعُسِ مسؤوليهم، وبتآمرِهم ، ما مَلَأَ حياتَهم بكلِّ قبيح. ولم يَلِنْ خَدُّهُ، ولم تسكنْ زفرتُهُ، لأنه لم يَرضَ المشاركةَ في أن يتمكّنَ اليأسُ من أهلِ البلدِ، وأن يسكنَهم الإحباط. وكانت المواجهةُ داخلَ المجلسِ الحكوميّ الذي عاينَ رجلاً متمسِّكاً بسيادةِ لبنان، مؤكِّداً على نظامه الديمقراطيِّ، رافضاً الفسادَ الذي أَرغَمَ الناسَ على الجوعِ، والفقر، والعَوَز، فلم يأكلوا في صحنِهم الفارغِ سوى هذا الهَمّ. وفي صُروحِ الخدمة، حملَ الدكتور سليم عَصاً مجدولةً ، إسوةً بما كان بين يَدَي "عشتار "، إلهةِ الخَصبِ عند السومريّين، وذلك للدَّلالةِ على إلزاميّةِ موتِ الشَحّةِ والجَفاف، وللإحتفاءِ بفَيضِ ينابيعِ الخير، وهذا حقٌّ للناسِ على مَنْ يتربَّعُ فوقَ رؤوسِهم.


لقد أخذ الدكتور الصّايغ بقُسطِ المشاركةِ الفاعلةِ في مشروعِ تَضافرِ الجهود لمواجهةِ التحديّاتِ المُحدِقَةِ بالوطن، وذلك، بفَهمٍ ودرايةٍ، فالوطنُ، معه، ليس ذكرياتِ المدرسة، ولا زِيّاً يُلبَسُ ويُخلَع، إنه الجبلُ المعتصِمُ بالكرامة، والمتمرِّسُ بالإباء، لا يلوي، ولا يلين مهما قَسا عليه التراب. وما نداءاتُه، وتصريحاتُه، وطلّاتُهُ في الإِعلام، سوى البرهانِ السّاطعِ على وعيٍ ثاقبٍ جاهرَ بمواقفَ جريئةٍ، واقتراحاتٍ واقعيّة، ما ينمُّ عن دقّةِ فَهمٍ، وسلامةِ تحليل، ويقظةٍ مُتّزِنَة، ومقاربةٍ عقلانيّةٍ لمعالجاتٍ ممكنةٍ تأخذُ بالإعتبار الوضعَ المُعَقَّدَ للتركيبةِ الوطنيّةِ، والسياسيّة.


الدكتور سليم الصّايغ هو من العائلةِ المالِكةِ في عِلمِ النّجاح، لذلك، فإنّ سلوكَهُ المِهنيَّ في التّدريسِ الجامعيّ، وتألّقَهُ في المنصبِ الوزاريّ، لهما، في أرضِ التفوّقِ، شجرةُ نَسَب. وهو، بالرّغِم من أعراضِ المخاطرِ، والمصاعبِ، وأيّامِ الأزمات، لم يُسلّمْ سنابلَه الى مِنجَلِ اليَباس، وتحكَّمَ بأغراضِ النجاحِ تَحَكُّمَ الآمِرِ لا المَأمور، فكان، عن حقّ، ناشطاً يحادثُ الزّمنَ من تحتِ الشَّوك، مُثبِتاً أنّ عصرَ الإنجازاتِ الوطنيّةِ ما انتهى، وأنّ الإنجازاتِ لا تُبنى بالزّخارفِ، بل بعدمِ التردُّدِ في إعلاءِ مداميكِها باندفاعٍ لا يعرفُ الكَلَل.


إنّ أمثالَ الدكتور سليم الصّايغ هم أقطابُ المجتمعِ حيثُ تتنفّسُ الحياةُ التي كان لها منهم حَظّ، فالرَّجُلُ عقلٌ نَيِّرٌ، وهمَّةٌ جريئة، وقامةٌ وطنيّةٌ رائدة. إنّ الرّشدَ في مواقفه الوطنيّة هو تَحَسُّسٌ أفرزَته خبرةٌ طويلةٌ، في مقاربةِ الواقعٍ، ليسَت أفلاطونيّةَ الشُّرود، ولا هي وَعظٌ مُنَفِّر، بِقَدرِ ما هي مجموعةُ عِبَرٍ صيغَت من تجربةٍ إنسانيّةٍ وسياسيّةٍ عميقة، وتَرقى بقيمتِها الوطنيّةِ الى أن تتمدَّدَ فوقَ جسدِ الأيام، سِمَةً للحاضرِ، ورؤيةً للمستقبل.