سوريا: سجناء يهربون غير مصدقين أنهم ولدوا مرة ثانية

رغم أن سوريا بذاتها، كبلد، تبدو الآن، وهي تتحرر من سلطة ديكتاتورية غاشمة، حكمتها نصف قرن وأكثر، أشبه بصندوق مليء بالأسرار الكارثية، إلا أن سجونها هي الخلاصة، الأشد وحشية وقهراً. فهنا ستجد الضحايا الذين مازالوا على قيد الحياة والأمل في أن تأتي لحظة الفرج، ليستعيدوا حريتهم، بعدما طوت الجدران والأبواب الحديدية سنوات أعمارهم، في كتاب صفحاته إسمنتية، لا يمكن قلبها، إلا بثورات جامحة.

المَشاهد المتكررة في مدينتين تحررتا من سلطة نظام الأسد، هما حلب وحماة، تكفي لرواية القصة، وتوفر علينا الحاجة إلى الإطناب في شرح ما تفعله المعتقلات بنفوس البشر، إن كانوا داخلها أو خارجها. يقتحم الثائرون المكان فيتوجهون فوراً إلى السجون ليفتحوا أبوابها، كي يخرج من فيها من دون أن يلتفتوا وراءهم، تاركين أوراقهم الشخصية، فهي غير ذات قيمة، طالما أن الدولة بذاتها تنهار وتتفتت سلطتها القهرية، وأن البدايات المقبلة بعد نهايات الأحداث، ستتخذ شكلاً آخر. السجناء يصدمهم باب مفتوح على مصراعيه، يركضون بعيداً تاركين خلفهم جرائم اتهموا بها… بعضهم ارتكب ما نسب إليه، فلا يتوقف ليشكر من حرروه، ويسرع بعيداً، فقد منحه الظرف الاستثنائي والقدر فرصة لبداية ثانية، وربما جريمة ثانية تنتظره، سعياً وراء ثأر قديم، أو رغبة في الانتقام من جلاد متوحش!

وبعضهم ما زال يمتلك القدرة على الاندهاش، مما تعرض له، فيناقش أمام الكاميرا، في الحجم الهائل للعقاب مقابل المخالفات. فيتحدث سجين حموي عن مدة سجن تتجاوز شهراً ونصف الشهر، بتعذيب مستمر لمدة أسبوعين من أجل مخالفة موتوسيكل! بينما تنقل الأخبار البعيدة عن سجناء، باتوا طلقاء، أبلغ النظام أهاليهم في ما مضى، أنهم ماتوا في سجونه، وأزال قيود حياتهم من سجلات النفوس، فصاروا خارج الأعراف، يترنحون، وهم بكامل توقهم وطاقتهم للحرية، بين الموت والحياة، بذكريات مديدة، موزعة على لونين اقتسما جدران الزنازين، هما الأبيض والرمادي!

“أدب السجون”، تصنيف معروف حول العالم لتلك الروايات التي تتحدث عما يجري وراء الاسوار المغلقة، لكن سوريا تكاد تكون أكثر بلد، أنتج روايات، تُدرج تحت هذا النوع من الكتابات “الديستوبية”. وضمن تلافيف القصص التي تصلح للكتابة، تقدم صور المراسلين (نقلها مراسل تلفزيون سوريا) وجهين لمعتقلين لبنانيين، ضاع أثرهما في الغيب الأسدي أكثر من أربعين سنة، من دون أن يتمكن أهلهما من العثور على خيط يدل إلى مصيرهما. وتوضح التقارير المنتشرة، أن ثمة أكثر من مئة لبناني، اكتشف العالم أنهم أحياء في سجن حماة المركزي

غير أن ما يتراءى للبعض، عن أنه تكرار للنمط السردي السجني في الأدب، سيتحول هنا إلى الفانتازيا الدموية القاتمة، أو إلى الواقعية غير السحرية، التي تتناسب مع طبيعة مفهوم الأسديين عن العقاب. فإذا نجا المرء من الموت على أيديهم، فإن الحياة “تحت سابع أرض”، أو “ورا الشمس” لا تشبه مطلقاً “لطافة” أن يتم توقيف الشخص في “بيت خالته”! فالمكان المجهول يعني عقاباً من طبيعة مجهولة أيضاً، لا يمكن لأحد أن يشرحها سوى الناجين منها، وقد ينجحون في إيصال التفاصيل لمن يستمعون للقصة، وعلى الأغلب لن يصدق هؤلاء كل ما سيسمعونه. فحين تستمع إلى إنسان قضى عشرات السنين بعيداً من الحياة، ستظن أن ما يقوله هو جزء من عوالم تنتجها الذهانية المرضية التي تجعل المصابين بها ينفصمون عن الواقع، فيتوهمون أشياء غير موجودة.

سوريا التي نراها في مشاهد المدن المحرّرة، هي صانعة الأمراض النفسية الكارثية بجدارة. فكل إنسان أصابه أثر منها، يحدثك عن أن الجميع بات بحاجة إلى تطبيب نفسي. لكن جزءاً غير قليل من الضحايا، يحتاج إلى إعادة خلق ربما، فأي علاج ستمنحهم إياه أفضل مراكز التداوي، لن يكون كافياً من أجل إعادتهم إلى صفوف مجتمع يحاول التعافي بدوره.

هنا، يمكن لنا تَفَهُم أولئك الذين يهربون من المكان، من دون التفكير في أوراقهم الثبوتية. إذ أن التخلّص منها هو أول المحاولات للخلاص، من المرض السوري. وقد ينجحون في الإمساك بهذا الخيط لوقت ما، قبل أن تضطرهم الأمور الإجرائية لأن يولدوا مجدداً على الورق بأسمائهم، أو بأسماء مختلفة، وبما يناسب ضرورات النجاة.