المصدر: الديار
الكاتب: بروفسور جاسم عجاقة
الاثنين 26 حزيران 2023 07:38:51
إنه لمن البديهي القول إنه أينما حلّ "الكاش"، هناك شبهة تبييض أموال. هذا القول هو المبدأ الذي تتبعه كل السلطات المالية الدولية التي تكافح تبييض الأموال وتمويل الإرهاب (ML/TF). عمليًا أكثر من 90% من العمليات التجارية التي تحصل في لبنان هي نقدية، وبالتالي فإن لبنان موضع شبهة من قبل المؤسسات الدولية، خصوصًا مجموعة العمل المالي الدولية (MENAFATF).
إدراج لبنان على اللائحة الرمادية الدولية لمجموعة العمل المالي الدولية، كان أمرا شبه محسوم، إلا أنه وبحسب معلومات تمّ تداولها في كواليس السياسة، ان هناك ضغوطات خارجية دفعت باتجاه إعطاء لبنان فرصة سنة للقيام بإجراءات عملية وقانونية، للتخفيف من مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب الناجمة عن حجم الاقتصاد النقدي الحالي في لبنان، والناتج من انهيار الثقة بالقطاع المصرفي.
واللائحة الرمادية تُعرف رسميًا بلائحة الدول التي تُمثّل خطرًا في ما يتعلق بغسل الأموال وتمويل الإرهاب، حيث تلتزم الدول المدرجة فيها بمعالجة أوجه القصور في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بالتعاون مع مجموعة العمل المالي الدولية. وبالتالي، تخضع هذه البلدان للمزيد من الرقابة على العمليات المالية مع العالم الخارجي، كما ومراقبة الإجراءات الداخلية التي تعهّدت هذه الدول بتنفيذها. وبحسب آخر إصدار بتاريخ 23 حزيران 2023، تضمّ هذه اللائحة كلًا من: ألبانيا، بربادوس، بوركينا فاسو، الكاميرون، جزر الكايمان، كرواتيا، جمهورية الكونغو الديموقراطية، جبل طارق، هايتي، جامايكا، الأردن، مالي، موزمبيق، نيجيريا، بنما، الفليبين، السنغال، جنوب أفريقيا، جنوب السودان، سوريا، تنزانيا، تركيا، أوغندا، الإمارات العربية المتحدة، فيتنام واليمن.
منهجية مجموعة العمل المالي الدولية
تبني مجموعة العمل المالي الدولية تقاريرها بناءً على منهجية علمية، عبر مؤشّر مؤلّف من عدة مؤشرات أخرى هي:
- أولًا: مخاطر غسل الأموال - تمويل الإرهاب، وله وزن 52.5% من إجمالي المؤشّر العام، ويضّم بدوره عدّة مؤشرات هي التعاون مع مجموعة العمل المالي الدولية مع نقص في مكافحة غسل الأموال، الامتثال لنصائح المجموعة (40+9 Rec)، تقييم وزارة الخارجية الأميركية لتبييض الأموال في البلد المعني (تقرير يصدر كل عام في شهر آذار عن الأنشطة غير المشروعة في العام)، وتقييم الإرهاب العالمي من قبل وزارة الخارجية الأميركية (تقرير سنوي عن الإرهاب).
- ثانيًا: العقوبات الدولية تكوّن من ثلاثة مراجع: الأمم المتحدة، لائحة الأوفاك الأميركية (OFAC List) والاتحاد الأوروبي.
- ثالثًا: مخاطر الفساد، حيث يتم احتساب درجات هذه المخاطر من خلال مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، ومؤشرات الحوكمة للبنك الدولي للسيطرة على الفساد.
- رابعًا: مؤشر الإجرام للمبادرة العالمية: المؤشر العالمي للجريمة المنظمة هو مؤشر مركب، يقيس ثلاثة مجالات تؤثر في الإجرام على أساس كل بلد على حدة: الأسواق الإجرامية والعوامل الإجرامية والصمود. وهو يصدر عن مؤشر الجريمة المنظمة العالمي بدعم من الاتحاد الأوروبي وحكومة الولايات المتحدة.
- خامسًا: مؤشر مرونة المبادرة العالمية، ويضم هذا المؤشّر عدّة مؤشرات هي القيادة السياسية والحوكمة، الشفافية والمساءلة الحكومية، التعاون الدولي، السياسات والقوانين الوطنية، النظام القضائي والاحتجاز، تطبيق القانون، النزاهة الإقليمية، مكافحة غسل الأموال، القدرة التنظيمية الاقتصادية، دعم الضحايا والشهود، الوقاية، الجهات الفاعلة غير الحكومية.
- سادسًا: القائمة السوداء لضرائب الاتحاد الأوروبي، وهي لائحة يضعها الاتحاد الأوروبي للبلدان غير المتعاونة ضريبيًا.
- سابعًا: مركز التمويل الـ Offshore، ويتم تحديده من ثلاثة مصادر (Eurostat, Corpnet, and US/INCSR).
آلية التبييض المحتملة في لبنان
حدّدت المادة الأولى من القانون 44/2015 الأموال غير المشروعة بـ "الاصول المادية او غير المادية، المنقولة او غير المنقولة، بما فيها الوثائق او المستندات القانونية التي تثبت حق ملكية تلك الاصول او اي حصة فيها، الناتجة من ارتكاب او محاولة ارتكاب معاقب عليها او من الاشتراك في اي من الجرائم الآتية، سواء حصلت هذه الجرائم في لبنان أو خارجه". وهذه الجرائم هي: زراعة او تصنيع او الاتّجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية وفقاً للقوانين اللبنانية، المشاركة في جمعيات غير مشروعة بقصد ارتكاب الجنايات والجنح، الارهاب وفقاً لأحكام القوانين اللبنانية، تمويل الارهاب او الاعمال الارهابية والاعمال المرتبطة بها (السفر - التنظيم - التدريب - التجنيد...) او تمويل الافراد او المنظمات الارهابية وفقاً لأحكام القوانين اللبنانية، الاتجار غير المشروع بالأسلحة، الخطف بقوة السلاح او بأي وسيلة أخرى، استغلال المعلومات المميزة وافشاء الاسرار وعرقلة حرية البيوع بالمزايدة والمضاربات غير المشروعة، الحض على الفجور والتعرض للأخلاق والآداب العامة عن طريق عصابات منظمة، الفساد بما في ذلك الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة واساءة استعمال السلطة والاثراء غير المشروع، السرقة واساءة الائتمان والاختلاس، الاحتيال بما فيها جرائم الافلاس الاحتيالي، تزوير المستندات والاسناد العامة والخاصة بما فيها الشيكات وبطاقات الائتمان على انواعها وتزييف العملة والطوابع واوراق التمغة، التهريب وفقاً لأحكام قانون الجمارك، تقليد السلع والغش في الاتجار بها، القرصنة الواقعة على الملاحة الجوية والبحرية، الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، الاستغلال الجنسي بما في ذلك الاستغلال الجنسي للأطفال، جرائم البيئة، الابتزاز، القتل والتهرب الضريبي وفقاً للقوانين اللبنانية.
ونصّت المادة الثانية من القانون نفسه، على أن تبييض الأموال هو كل فعل يُقصد منه "اخفاء المصدر الحقيقي للأموال غير المشروعة او اعطاء تبرير كاذب لهذا المصدر، بأي وسيلة كانت، مع العلم بأن الاموال موضوع الفعل غير مشروعة، تحويل الاموال او نقلها، او استبدالها او توظيفها لشراء اموال منقولة او غير منقولة او للقيام بعمليات مالية بغرض اخفاء او تمويه مصدرها غير المشروع ، او بقصد مساعدة اي شخص متورط في ارتكاب اي من الجرائم المنصوص عنها في المادة الاولى على الافلات من الملاحقة. مع العلم بأن الاموال موضوع الفعل غير مشروعة".
معظم المخالفات المنصوص عليها في القانون 44/2015 موجودة في لبنان، إلا أنه وبعد انهيار الثقة بالقطاع المصرفي، وعجزه عن إعطاء المودعين أموالهم، استفحل اقتصاد النقد، وإزدادت كل الجرائم المنصوص عليها في القانون مع نسب مختلفة.
إلا أن المخالفة الفاقعة تبقى عملة الاستيراد، حيث يستورد لبنان بقيمة 20 مليار دولار أميركي سنويًا. مع العلم أن الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز الـ 18 مليار دولار أميركي، بما فيها تحاويل المغتربين البالغة 6.4 مليار دولار أميركي كما صرّح بذلك تقرير البنك الدولي. وبالتالي، تُقدّر قيمة الأموال التي قد تكون مصادرها غير معروفة بأكثر من 12 مليار دولار أميركي، حيث يقوم المستورد بإرسال دولارات "كاش" عبر مصرفه في لبنان إلى حسابات موجودة في الخارج (أوروبا بالدرجة الأولى)، وهو ما يجعلها عملية تبييض أموال في حال كانت هذه الأموال هي أموالا غير مشروعة، بحسب المادة الأولى من القانون 44/2015.
لماذا فترة السماح؟
وهنا يطرح القارئ السؤال عن سبب إعطاء لبنان فترة سماح من قبل مجموعة العمل المالي الدولية، بهدف وضع إجراءات للتخفيف من مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب؟
الاحتمالات عديدة، ولعل أكثرها تداولاً هي الضغوطات السياسية التي مارستها بعض الدول الكبيرة، بهدف إعفاء لبنان من مخاطر العزل المالي الإضافي، إلا أنه هناك احتمالات أخرى نذكر منها:
- أولًا: نقص الإثباتات عن عمليات تبييض أموال في لبنان، وهو أمر مستبعد نظرًا إلى أنه بغياب الإثباتات في هذا المجال يتمّ اختيار الشق السلبي.
- ثانيًا: مناورة بهدف الإيقاع برؤوس كبيرة منها رجال أعمال وتجّار، وهم يُشكّلون الأداة التنفيذية لبعض السياسيين المراقبين من قبل السلطات المالية الدولية. ويُحكى عن أكثر من 80 شخصية من هؤلاء تحت المراقبة، حيث أصبح لدى السلطات المالية الدولية أدلّة كافية لإدانتهم، والتي إن حصلت ستسمح بمصادرة الأموال من قبل الدولة، التي تم تحويل الأموال إليها. وقد يكون هنا بيت القصيد!
إجراءات حكومية
إذًا، مما تقدّم نرى أن لبنان لم يخرج من دائرة مخاطر العزل المالي الدولي، وبالتالي هناك إلزامية على حكومة تصريف الاعمال بأخذ بعض الخطوات، التي قد تؤدّي إلى إعفاء لبنان من مصير محتّم:
- أوّلًا: وضع آلية عمل وقاعدة بيانات مشتركة بين الجمارك ووزارة المال ووزارة الاقتصاد والتجارة، هدفها ملاحقة عملية الاستيراد.
- ثانيًا: الطلب إلى مصرف لبنان إصدار تعميم للمصارف لتشديد التدقيق بمصادر الأموال التي تذهب للاستيراد، وشبك المعلومات مع وزارة المال.
- ثالثًا: إلزام التجّار بحصرية قبول الدفع بواسطة البطاقات والشيكات، في حال تخطى مبلغ العملية الـ 100 دولار أميركي، خصوصًا أن هناك آلية موجودة متمثّلة بالتعميم 165 (على الحكومة اللبنانية إصدار قرار رسمي يضّمن الودائع التي يتمّ وضعها في المصارف بحسب التعميم 165).
- رابعًا: ملاحقة المهرّبين والتجّار الذي يُهربون عبر الحدود (In/out) وضرب مضاجعهم في لبنان، خصوصًا أنهم معروفون.
- خامسًا: ملاحقة التهرّب الضريبي، الذي يُعتبر جريمة مالية بحسب القانون 44/2015.
- سادسًا: تفعيل عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والأجهزة الرقابية الأخرى ، بهدف إرسال إشارة قوية إلى المجتمع الدولي.
لقد أثبت التاريخ أن لبنان يُفوّت الفرص بإستمرار. ولعل فترة السماح التي أعطتها مجموعة العمل المالي الدولي للبنان للقيام بإجراءات للجم مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، قد تكون الفرصة الأخيرة، قبل أن يُكمل لبنان الغوص في العزلة المالية العالمية ومعها الفقر. فهل تقوم حكومة تصريف الاعمال بهذه الخطوات قبل فوات الأوان؟