"شد الحبال" الرئاسي باقٍ فوق صفيح الحرب

لأن «اللعبةَ بات مكشوفةً» في لبنان بفعل اعتمالِ الأزمات السياسية المتسلسلة والمتناسلة وإدارتها بـ «الأدوات نفسها» على مختلف «الجبهات»، لم يتطلّب الأمر كثير عناء لتفكيك «حقل الأفخاخ» الجديد الذي زُنّرتْ به المَهمة المتجددة للموفد الفرنسي جان – ايف لودريان الذي تم إغراقُه بتراجعاتٍ شكلية وإيجابياتٍ زائفة، لا تعكس مراجعةً لكلّ المسار الذي عطّل الاستحقاق الرئاسي منذ أكثر من 18 شهراً أو لـ«الخطوط الحمر» التي رسّمها فريق «الممانعة» وبـ... العريض.

 

ولم يكن عابراً أن استمرارَ «شد الحبال» الرئاسي في لبنان، رغم ملامح «الترخية اللفظية»، لاسيما من رئيس البرلمان نبيه بري، يسير بالتوازي مع المَساعي المتواصلة لـ«سَحْب فتائل» تَفَلُّت جبهة الجنوب، وهي الجهود التي تتفيأ «قنواتٍ دافئةً» مفتوحةً بين واشنطن وطهران التي بدا واضحاً أنها تستثمر «المَكابح» التي وضعتْها أمام التَشظّي الكبير لحرب غزة خارج حدود القطاع - أي في اتجاه نزاع متفجّر في المنطقة - لتحقيق مَكاسب على صعيد الإفراج عن المزيد من الأموال الإيرانية، مع استعادتها في الوقت نفسه لعبة «تكبير حجر البرنامج النووي» لمقايضته بما يماثله في «الدور» الإقليمي.

وهذا التشابك بين ملفي الرئاسة والحرب كما بين البُعدين المحلّي والإقليمي لهما، هو الذي يشكّل واقعياً «مسرحَ العمليات» الحقيقي الذي تدور عليه الانتخابات الرئاسية التي ازدادتْ تعقيداً في ضوء تَحَوُّل ما تعتبره المعارضة اقتيادَ لبنان «مخفوراً» إلى محرقة غزة عبر جبهة الجنوب عنصراً يضاف إلى «مضبطة الاتهام» لفريق الممانعة ويعزّز تَشَدُّدها حيال وصول مرشّحه (سليمان فرنجية) للرئاسة والسعي لرئيس يكون انتخابه مدخلا لتشكيل سلطة توقف «تمكين» حزب الله في الحُكم وتؤسس لبيئة حاضنة لوضع موضوع سلاحه على الطاولة، في الوقت الذي يَعتبر الممانعون أن مجريات حرب غزة والتوحّش الإسرائيلي المنقطع النظير يعمّقان اقتناعهم بحتمية بقاء سلاح الحزب «كما هو» وانتخاب مرشحه الذي «يَطمئنّ له وإلى أنه لن يطعن المقاومة في ظهرها».

 

وفي «تدقيقٍ على البارد»، بحصيلة لقاءات لودريان في بيروت مع مختلف الأفرقاء السياسيين، تتوقف أوساط مطلعة عند الآتي:

 

- حرص بري، الذي زاره لودريان أمس بعد محطة للأخير في الضاحية الجنوبية مع رئيس كتلة نواب «حزب الله» محمد رعد، على ملاقاة محاولة الموفد الفرنسي «تدوير زوايا» التطاحن بين الممانعة والمعارضة حول مسألة الحوار الرسمي وطاولته، ودعوته إلى إسقاط كلمة حوار واستبدالها بنقاشاتٍ أو مناقشات.

 

وقد أكد بيان المكتب الإعلامي لبري أن الأخير كرر «تمسكه بمبادرته لانتخاب رئيس والدعوة ومن دون شروط مسبقة للتشاور حول موضوع واحد هو انتخاب الرئيس ومن ثم الانتقال إلى القاعة العامة للمجلس النيابي للانتخاب بدورات متتالية رئيس من ضمن قائمة تضم عدداً من المرشحين حتى تتوج المبادرة بانتخاب رئيس».

 

- ما نُقل عن أجواء لقاء لودريان ورعد من أن «النقاش كان صريحاً والطرفان ⁠بحثا فكرة التشاور كمدخل لإعادة تحريك الملف الرئاسي والتي تختلف عن الحوار»، وأن حزب الله أكد «ضرورة إنجاز الاستحقاق الرئاسي وأن هذا الأمر لن يتم إلا من خلال حوار جدي بين كل الأطراف وبرئاسة بري»، وأن النقاش تناول أيضاً الحرب في الجنوب والقرار 1701 والورقة الفرنسية للحل وأن الحزب شدد على أن لا ارتباط بين الملف الرئاسي وحرب غزة.

 

التشاور و«دورات متتالية»

 

ومن خلْف هذه «القنبلة الدخانية» من الإيجابياتِ المفترَضة، اعتبرتْ الأوساطُ المطلعة أن بري في موقفه تَعاطى مع «خريطة الطريق» لبتّ الملف الرئاسي التي وَضَعَتْها مجموعة الخمس حول لبنان أخيراً والتي انطلق منها لودريان A la carte وانتقى منها «مقتطفات»، هي كلمة التشاور و«دورات متتالية» و«قائمةً تضمّ عدداً من المرشّحين»، في حين أن عباراتِ «من دون شروط مسبقة» و«دورات متتالية» بدت تمويهاً لإصرارٍ على أن يترأس هو التشاور «غير المحدود زمنياً» (أو لمدة اسبوع)، ولرفْضه الدعوة إلى «جلسةٍ مفتوحة» - لم يذكرها في بيانه أمس - بدوراتٍ متتالية وفق خريطة الخماسية وموقف المعارضة.

 

وإذ جاء ما نُقل عن رعد من تَمسُّك «حزب الله» بترشيح فرنجية، الذي أكد بدوره وعلى مسامع لودريان الذي زاره أول من أمس، ثباته على ترشيحه «كحقّ له»، وتفادي «الممانعة» التعهد بعدم تعطيل نصاب الجلسات أو الدورات المتتالية، ليؤكد المؤكد لجهة أن جوهر موقف هذا الفريق لم يتبدّل لناحية «فرنجية أو لا رئيس» حتى الساعة، برز أمران عزّزا الاقتناعَ بأن «شياطين التفاصيل» لن تتأخّر في تثبيت أن الجولة السادسة للموفد الفرنسي منذ تكليفه هذه المهمة لم تقترب من إحداث الاختراق المطلوب، وإن كانت المرونة الشكلية «المفخّخة» من الممانعة، و«العناية» من المعارضة في تظهير مقاربتها لِما طرحه رئيس البرلمان بحيث تُبْقي كرة التعطيل في ملعب الممانعة، يرتبطان بأنّ لودريان سيرفع حصيلة لقاءاته إلى الاليزيه الذي يتهيأ لبحث الملف اللبناني برمّته مع الرئيس جو بايدن.

 

والأمران هما:

 

- ما أوردته قناة «إم تي في» اللبنانية عن أن «لودريان كرّر لزواره في قصر الصنوبر أنّ الحل الرئاسي هو على قاعدة (المرشح الثالث) وإن على مرشحيْ جلسة 14 يونيو 2023 (فرنجية وجهاد أزعور الذي رشّحته المعارضة بتقاطُع مع التيار الوطني الحر) الانسحاب توفيراً للوقت وتجنُّباً لإحراج الكتل والخماسية»، وهو الموقف الذي لن يسلّم به في أي حال فريق «الممانعة» على عكس المعارضة التي أبدت مراراً الاستعداد للبحث في الخيار الثالث ما أن يُبدي الفريق الآخَر استعداداً للتخلي عن مرشحه.

 

- والثاني ما أعلنه رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» سامي الجميل بعد استقبال لودريان، من أن المطلوب من الرئيس بري في ضوء موقفه المستجدّ و«بمعزل عن شكل النقاشات أو المشاورات أو الحوار» إعطاء ضمانات في اتجاهيْن، أولهما هل يلتزم بالدعوة إلى «جلسة مفتوحة بدورات متتالية (وليس جلسات مفتوحة بدورات متتالية) بغض النظر عن نتائج التشاور (أم أنه بحال لم نتفق لن يدعو إلى جلسة)»، وثانيها هل يَضمن أن فريق الممانعة بحال عدم الاتفاق سيحضر الجلسة ولن يعطّل النصاب مجدداً.

 

ولم يقلّ دلالة ما نُقل عن لودريان، الذي التقى أمس أيضاً البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع وكتلاً نيابية أخرى غداة زيارته رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، من أن«لبنان السياسي» سينتهي إذا بقيت الأزمة على حالها ومن دون رئيس للجمهورية ولن يبقى سوى «لبنان الجغرافي»، وتحذيره من المزيد من تعطيل الاستحقاق وترْك الأزمة تتجاوز يونيو ويوليو المقبلين لأن ذلك سيعني ترحيلاً طويلاً لها لِما بعد الانتخابات الأميركية في الوقت الذي تؤشر المعطيات إلى أن حرب غزة لا تقترب من نهايتها.