"صحيح البخاري" في الموقف السعودي

إختار سفير المملكة العربية السعودية في لبنان وليد بن عبدالله البخاري طرابلس «عرين العروبة وقلبها النّابض بالاعتدال» وذات «الجذورالضاربة في العمق العربي» كما وصفها، للادلاء بـ»صحيحه» حول حقيقة موقف المملكة وثوابتها إزاء لبنان واستحقاقاته في هذه المرحلة مُذللاً بعض الالتباسات التي تثارحول هذا الموقف، ومنها قول البعض ان الرياض تدفع في اتجاه الاتيان برئيس للجمهورية من صفوف حلفائها بعيداً من اي توافق عليه مع الفريق الآخر.
 
على مائدة رجل الاعمال الطرابلسي محمد ديب قرأ البخاري صحيحه (بالاذن من «صحيح البخاري») في حضور لفيف من القيادات السياسية اللبنانية حول حقيقة الموقف السعودي مما يجري في لبنان وكيف ترى الرياض السبيل لإخراجه من الانهيار الذي انزلق إليه.
 
وفي صحيح البخاري هذا انّ «غاية السعودية ومرتجاها ان يبقى لبنان قلباً واحداً ويداً واحدة في خدمة نهوض ارضه وازدهارها ورخاء ابنائه، بعيداً من اي تدخل، فقوة لبنان وصموده ينبعان من الداخل والدداخل فقط». ما يعني ان المملكة حريصة على وحدة لبنان وشعبه وانها ترى انّ على اللبنانيين النهوض ببلادهم وصنع الحلول لازماتهم بأنفسهم بعيدا من اي تدخل خارجي، في اعتبار ان قوتهم تنبع منهم فقط بعيداً من اي مصدر آخر
 
 
ويكمل البخاري في صحيحه، فيؤكد ان «رسالة العمل الديبلوماسي السعودي في لبنان تهدف الى توفير شبكة امان دولية مستدامة من اجل الحفاظ دائماً وأبداً على امن لبنان واستقراره، وان القيادة السعودية حريصة دائماً على ان تسعى من اجل تحقيق هذه المبادئ وهذه الرؤية». ثم يلفت الى ما سمّاه «المحور المهم في مرتكزات السياسة الخارجية السعودية» في الملف اللبناني وهو انها ابلغت الى الجميع ان السعودية لن تتعاطى او تدعم اي قوى سياسية منخرطة في الفساد السياسي والمالي، نقطة على السطر»، آملاً من الجميع «ان يغلّبوا المصالح العامة على المصالح الخاصة».
 
ثم يعقّب البخاري على ذلك في صحيحه، ليقول ان «لبنان يعيش مرحلة انتقالية، ويجب ان نتحمل مسؤولية مشتركة، الجميع والافراد قبل الدول، ولكن الحلول يجب ان تنبع من الداخل اللبناني، وان على الجميع ان يحددوا خياراتهم السياسية وان يتحملوا نتيجة تلك الخيارات حتى يقرأ المجتمع الدولي هذه المؤشرات بشكل ايجابي للتعاون والانطلاق وللدعم المشترك المستقبلي». ويعني هذا الموقف ان السعودية حاضرة لتحمل مسؤولية مشتركة مع اللبنانيين والدول لمساعدتها لدعم الحلول للبنان التي يجب ان تنبع من الداخل وليس من الخارج استناداً الى خيارات اللبنانيين السياسية حتى يتلقّفها المجتمع الدولي ويتعاون مع لبنان ويقدم الدعم المشترك له مستقبلاً.
 
 
 
وصحيح البخاري يقول انه هو انه ينفّذ توجيهات القيادة السعودية وتعليماتها حيث يعكسها في ما يعلنه من مواقف ازاء الاستحقاقات اللبنانية، وعلى رأسها الاستحقاق الرئاسي، تراعي مصالح المملكة التاريخية والراهنة والمستقبلية خصوصا في ضوء ما شهده لبنان من تطورات أقلّه منذ الحراك الشعبي في 17 تشرين الاول عام 2019. فالمملكة منذ ذلك الحين اعادت النظر في سياستها وعلاقاتها مع لبنان مُسقطة ما يجري في الاقليم على اوضاعه ومُسقطة ما يجري في لبنان على الاقليم، وذلك في ضوء الازمات الاقليمية الموزعة بين سوريا والعراق والبحرين واليمن وصولا الى شمال افريقيا.
 
وفي موضوع عدم التعاطي مع القوى السياسية المنخرطة في الفساد السياسي والمالي، فإنّ صحيح البخاري يكشف في هذا الصدد ان المملكة أجرت مراجعة دقيقة لموضوع الدعم الذي تقدمه للبنان في ضوء ورشة مكافحة الفساد التي يقودها ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان منذ تولّيه مسؤولياته، ويبدو انها ورشة لا تقتصر على الداخل السعودي فقط وإنما تتعداه الى كل الدول التي تقدم لها السعودية الدعم السياسي والمالي، ومنها لبنان الذي نال ولا يزال ينال دعماً سياسياً ومالياً منذ عشرات السنين.
 
 
وفي صحيح البخاري ايضا ان المملكة قررت عدم التعاطي مع كل مَن انخرط من قوى وقيادات سياسية في الفساد السياسي والمالي «ونقطة على السطر»، لأنها اكتشفت ان مبالغ ضخمة من المساعدات التي قدمتها للبنان ذهبت الى جيوب هؤلاء بدلاً من ان تكون عوناً للبنانيين عبر دولتهم ومؤسساتها الرسمية والاهلية على تخطّي الازمات المالية والاقتصادية والمعيشية التي يرزحون تحتها، وعندما أنشأت أخيراً الصندوق المشترك بينها وبين فرنسا لدعم لبنان، إنما خصّصت محتواه للجمعيات والمؤسسات المدنية والاهلية مباشرة حتى لا تستحوز عليه منظومة الفساد.
 
وما لم يقله البخاري مباشرة في صحيحه عن الفساد اللبناني هو ان المملكة بقرارها في هذا الصدد لن تستثني احداً من حلفاء واصدقاء وخصوم، لأنّ الفساد في لبنان هو الوحيد الذي لا حصرية فيه لأحد، اذ انّ غالبية اركان المنظومة بكل تلاوينها منخرطة في الفساد السياسي والمالي، والمملكة تعرف من هم هؤلاء المتورطين لأنها ضبطتهم في كثير من الحقبات بالجرم المشهود، وهي تعرف عن ظهر قلب كل مَن كنز او بَدّد او أهدر ما قدمته من دعم مالي للبنان على مدى عشرات السنين، وهي تعرف ايضا ان الفساد بلغ مبلغه المدمّر في المرحلة الراهنة ويجب فطع دابره، ولذلك قال البخاري «نقطة على السطر»...
 
على ان السعودية بمقدار عدم ارتياحها او انزعاجها من الموقف السائد بينها وبين خصومها من اللبنانيين، فإنها في الوقت نفسه غير مرتاحة ايضا الى مواقف وتصرفات بعض حلفائها اللبنانيين ولا سيما منهم الذين انخرطوا في الفساد وينبرون اليوم الى المحاضرة في العفاف، مُتناسين انهم كانوا مشاركين فيه عبر مشاركتهم في السلطة خلال مراحل متلاحقة بعد إقرار «اتفاق الطائف»، فلا يخدعنّ هؤلاء الرياض واللبنانيين في انهم «أنقياء أتقياء» بِنَفض أيديهم اليوم من الفساد الذي لا دين له ولا طائفة ولا حزباً، بدليل ان الفاسدين هم «تشكيلة وطنية» على ايديها وصلت البلاد الى الانهيار بدءاً من العام 2019 الى اليوم.
 
 
وفي سياق اعادة النظر هذه غربلت السعودية الدولة اللبنانية وكل القوى السياسية بعد تعرّفها الى مكامن الفساد، ما يفرض على اللبنانيين في المقابل اجراء الغربلة نفسها والتي اذا ما أُجريت فإنه لن يبقى في الغربال الّا «ما رحم ربي».
 
ويُقرأ في «صحيح البخاري» ايضاً في حديثه عن ان الحل ينبغي ان ينبع من الداخل اللبناني، ان المملكة، وخلافاً لما يقوله البعض، ليس لديها مرشحاً لرئاسة الجمهورية ولا تعمل لإيصال مرشح معين لإدراكها اكثر من غيرها ان اي رئيس للبنان لا يمكن الا ان يكون توافقياً لا ان يكون من فريق معين او منحازاً لفريق معين، وهي تعاملت مع الرئيس ميشال عون بعد انتخابه على اساس انه انتخب بشِبه إجماع القوى السياسية بما انسجم مع موقفها الدائم من انها تؤيّد ما يُجمع عليه اللبنانيون وتدعمه، ولكن العلاقة بينها وبين عون انتكست بعد نحو سنة من انتخابه مع العلم انها كانت اول بلد عربي زاره عون بُعيد انتخابه، والانتكاسة حصلت لأن الرياض وجدت في مواقف عون وتصرفاته انحيازاً لفريق معين، بل لمحور معين، علماً ان موقفها الذي كانت قد أبلغته الى القيادات اللبنانية عبر السفير بخاري والمستشار في الديوان الملكي الدكتور نزار العلولا وغيرهما من الديبلوماسيين الذين زاروا لبنان في تلك الحقبة هو انّ ما يهمّها من اي رئيس لبناني هو ان يحافظ على عروبة لبنان وعلاقته بعمقه العربي، وان على اللبنانيين ان يتحملوا مسؤولية اختيارهم لرئيسهم وان يحاسبوه بأنفسهم اذا انحرف او تنصّل من التزاماته الداخلية والعربية.
 
على انه لم يسجل للسعودية ان تدخلت في اي استحقاق رئاسي لبناني، ولكن طبّاخي هذا الاستحقاق في الداخل والخارج يحرصون دوما على ان تكون لها «حصة» فيه من حيث ان يكون لها دور في تزكيته وفي ان لا يكون غير منسجم مع سياستها ومصالحها في لبنان وعلى مستوى الموقف العربي، علماً ان لها غالباً دوراً ما في اختيار رؤساء الحكومات تبعاً لطبيعة العلاقة التاريخية التي تربطها بالطائفة الاسلامية السنية التي تتبوّأ عُرفاً موقع رئاسة الحكومة اللبنانية.
 
وبغض النظر عن الخصومة السائدة بينها وبين «حزب الله» وحلفائه، بسبب حرب اليمن، فإن المملكة واقعاً بَدّلت وعَدّلت ولا تزال تبدّل وتعدّل وستستمر في تعديل مواقفها وخياراتها اللبنانية تبعاً للتطورات المتلاحقة التي يشهدها لبنان الذي يقف على ابواب مرحلة جديدة بعد إنجاز استحقاقاته الماثلة، وعلى رأسها استحقاق انتخاب رئيس جمهورية جديد يطوي صفحة العهد الحالي الذي بلغت العلاقات اللبنانية السعودية فيها ذروة التوتر والتشنج للمرة الاولى منذ نشوئها بين البلدين بدءاً من عشرينات القرن الماضي.