المصدر: نداء الوطن
الكاتب: زيزي اسطفان
الاثنين 29 كانون الثاني 2024 07:38:45
خسروا أمنهم وأموالهم وأحلامهم وها هم اليوم يخسرون صحتهم... هم مرضى التصلّب اللويحي Multiple Sclerosis المرض الذي يصيب الشباب بدءاً من العشرين من عمرهم حتى الأربعين فيفتك بالجهاز العصبي ويعرض المصابين لـ»هجمات» مفاجئة تسبب في كل مرة تدهوراً في وضعهم قد يصل إلى الشلل التام. العلاجات الحديثة استطاعت لجم تقدم المرض والحد من أعراضه. لكن مرضى التصلب اللويحي في لبنان الذين كانوا على تناغم مع أحدث العلاجات العالمية يجدون أنفسهم اليوم بلا دواء عرضة لأسوأ الإنتكاسات.
في الوقفة الاحتجاجية التي دعت إليها الجمعية اللبنانية لمرضى التصلب اللويحي ALISEP تحت رعاية نقابة الصيادلة في لبنان بدا واضحاً أن حالة الكثيرين من المرضى قد تراجعت بشكل ملحوظ منذ سنتين الى الآن. كثر منهم باتوا على العصي او الكرسي المتحرك واختصرت اليافطة التي كانت شعار الحملة الواقع الأليم بين المرضى ودولتهم: «إنتو عكرستكم ونحنا عكارثتنا...». شباب في مطلع حياتهم وعز عطائهم يصطدمون في مسيرتهم بعائق قاسٍ يصعب تخطيه، فهم الذين تقبلوا المرض وعرفوا كيف يتعايشون معه رغم صعوبته صاروا اليوم تحت رحمة أسعار الأدوية وغياب وزارة الصحة شبه التام عن وضعهم.
وزارة الصحة تتحجج بأنها أمنت ثلاثة أدوية مدعومة لمرضى التصلب اللويحي ووزير الصحة يقول إنه اجتمع مع لجنة طبية أكدت أن هذه الأدوية كافية كعلاجات للمرض. لكن الواقع وفق ما تقول لـ»نداء الوطن» السيدة جاين كوسا رئيسة جمعية ALISEP مخالف لذلك تبعاً لآراء أطباء الدماغ والأعصاب الذين يجمعون انها ليست كافية ولا تغطي جميع حالات المرض التي تختلف من مريض الى آخر. كما أن الأدوية التي تؤمنها الوزارة هي من نوع الجينيريك الذي يأتي بأسعار اقل من الأدوية الصادرة عن شركات عالمية. ارتفاع أسعارالأدوية في لبنان دفع بالمرضى الى البحث عن مصادر أقل كلفة يستطيعون تحملها فلجأ بعضهم الى تركيا للحصول على أدويته فيما لجأ مرضى آخرون الى أدوية إيرانية الصنع أو هندية رغم أن الأطباء لا يوصون بها. ولكن يصبح الأمر مفهوماً حين ندرك أن سعر أرخص نوع من الأدوية يبلغ 360 دولاراً ويتصاعد سعر الأنواع الاخرى ليصل الى 800 دولار وما فوق فيما يرتفع سعر الإبرة التي تؤخذ مرة كل ستة اشهر الى حوالى 1500$ بعدما كانت وزارة الصحة تقدمها مجاناً في السابق، وسعر أحد الأدوية يبلغ اليوم 300$ بعد أن كان ب1،500000 ليرة بعدما عملت شركة الأدوية على دعم المرضى من خلال تقديم علبة مجانية مع كل علبة منه. حتى أن بعض الأدوية كانت الحبة الواحدة منه بألفي دولار سابقاً فكيف بسعره اليوم. هذا الفرق المخيف في الأسعار بين الأمس واليوم لأدوية اساسية يلخص ما يعانيه هؤلاء المرضى من استحالة القدرة على تأمينها. ويؤكد محمد شمس الدين الباحث في الدولية للمعلومات أن كل ما يحكى عن سعي الوزارة لتأمين الأدوية المستعصية لا يزال حتى اليوم في إطار الكلام ولا خطة واضحة ومدروسة للقيام بذلك وما تؤمنه الوزارة اليوم من أدوية لمرضى التصلب لا يشكل إلا جزءاً بسيط جداً من احتياجاتهم لا بل يمكن القول انهم متروكون كلياً تحت رحمة دولة آخر همها الناس.
كارثة رفع الدعم
واقع الأدوية التي يتم توزيعها من قبل وزارة الصحة تؤكده إحدى مريضات التصلب اللويحي السيدة مادونا عقيقي التي تقول «طلبت منا وزارة الصحة تجديد الرقم الموحد الذي كنا نستخدمه سابقاً للحصول على الدواء واستطعت شخصياً الحصول مرة منذ ستة اشهر على دوائي لكن غيري لم يحالفه هذا الحظ. (وكأن الأمر مسألة حظ او يانصيب). مرة نحصل على الدواء ومراراً نجابه بالأعذار ويكون الدواء غير متوافر إضافة الى أن ثمة مرضى يتناولون أنواعاً أخرى من العلاجات غير التي توفرها الوزارة. المصيبة تقول عقيقي إن مرضنا ليس مميتاً، وليته كان كذلك، لكن حالتنا تتراجع بشدة حين لا نأخذ علاجنا ونصبح بحاجة للاتكال على غيرنا، على عائلتنا ومجتمعنا الصغير. كان باستطاعتي ان أكمل حياتي لو ثابرت على الدواء وأن أبقى منتجة ومعتمدة على نفسي، لم اصل الى سن التقاعد وما زال بإمكاني أن أعطي لكنني لم اعد استطيع العمل. أحاول قدر استطاعتي أن اشتري أدويتي الأساسية من تركيا كونها أقل سعراً لكن ثمة علاجات موازية يجب لمرضى التصلب اللويحي تناولها، أدوية لمعالجة التشنجات مثلاً ولالتهابات المسالك البولية وأدوية تساعد على المشي. كذلك هناك علاجات رديفة مثل العلاج الفيزيائي الذي لا يزال الضمان الصحي يحتسبه على قيمة 1500 ليرة وعلاج النطق وغيرها فكيف يمكننا تأمين كل هذه العلاجات؟ وإن امنّاها هذا الشهر هل نبقى قادرين على تأمينها الشهر القادم؟».
صعوبة الحصول على الأدوية وصعوبة المرض وثقل الأوضاع المعيشية الضاغطة أدت مجتمعة بأحد مرضى التصلب اللويحي الى وضع حد لهذه المعاناة اليومية والتخلص من حياته. انتحار ربما تكون له ظروفه لكنه جاء ليدق ناقوس الخطر الى حافة الهاوية التي يقف عندها المرضى وإمكانية انزلاقهم نحوها في أي وقت.
في الماضي حين كان الدواء مدعوماً كانت الأمور أسهل بكثير وكان يمكن للمريض فقيراً كان أم ميسوراً الحصول على دوائه. كانت وزارة الصحة تقدم الأدوية مجاناً لبعض المرضى فيما الضمان الاجتماعي يغطي 90% من سعر الدواء. كما كانت شركات الأدوية تدعم الجمعيات وتقدم لها أدوية مجاناً وثمة شركات تقدم أدوية تجريبية للمرضى للتحقق من مدى فعاليتها، وفق ما يخبرنا به أحدهم، مخففة بذلك عبئاً كبيراً عنهم. ولكن حتى هذه الشركات غادرت لبنان مع بدء الأزمة في العام 2019، الأزمة التي جعلت الوزارة ترفع الدعم عن معظم الأدوية حتى أدوية الأمراض المزمنة وتبقيه على قلة قليلة منها. وهكذا تغيّر نمط العلاج عند المرضى وانتظامه الأمر الذي يجمع كل الأطباء على كونه، مع السترس، العدو الأول لحالتهم والمتسبب بانتكاسة وضعهم.
السرقة أو الموت...
في وقفتهم الاحتجاجية الوجوه كئيبة والأصوات مخنوقة وكأن المرض وهمّ تأمين الدواء يستنزفان كل طاقتهم. «أمامي حلّان لا ثالث لهما يقولها بوجع احدهم إما أن أسرق او أرى زوجتي تموت امامي...» فيما مريض آخر في عز شبابه أب لطفلين يكاد صوته يتقطع وهو يشرح أنه يحتاج شهرياً الى دواء بكلفة 1500دولار يعجز عن تأمينه فيضطر الى تقنينه تاركاً نفسه بين يدي العناية الإلهية لتكون عوناً ورحمة له. «لا أعرف متى تصيبني هجمة او متى اضطر الى دخول المستشفى. أين دولتي الغافلة عن أرواح ابنائها؟» صرخات قد لا تصل الى آذان المسؤولين الذين يتجاهلون صرخات المواطنين أو يتحججون بألف حجة لتبيان حسن نواياهم. تؤكد وزارة الصحة أن الأدوية موجودة لكن د. سلام كوسا الاختصاصي في أمراض الدماغ والجهاز العصبي يؤكد من جهته أن الدواءين اللذين تعرضهما الوزارة لا يناسبان قطعاً كل الحالات وحتى إن توافرا فليس مؤكداً أن يكونا بمواصفات عالمية تتيح للمرضى الاستفادة منهما. كما يؤكد أن وضع المرضى المتردي بات يشكّل عائقاً أمام الأطباء لجهة وصف العلاجات المناسبة لكلّ حالة في ظلّ محدوديتها أو انقطاعها من السوق.
تقنين الدواء وتناوله بشكل متقطع او الامتناع عنه سكين يغرز في أجساد المرضى ليتركهم ينزفون ببطء. وقد كشفت د. كارين أبو خالد الاختصاصية في الأمراض العصبية عن نتائج دراسة حديثة أجرتها الجامعة اليسوعية حول تأثير الأزمة وانقطاع الدواء عن مرضى التصلب اللويحي في لبنان، لعينة من 38 مريض معدل العمر بينهم 45 سنة. و بينت الدراسة أرقاماً موجعة ومقلقة إذ اشارت إلى ارتفاع الإعاقة الشديدة من 4.25% إلى 23%، وارتفاع نسبة الذين لا يتلقون العلاج إلى 39%.
صرخة في واد...
عدد مرضى التصلب اللويحي في لبنان يقارب 3300 مريض تهتم جمعية Alisep بأكثر من نصفهم بينما تهتم جمعيات ومؤسسات أخرى بمن تبقى ومن بينها المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت. الجمعية وقفت الى جانب المرضى منذ تأسيسها وأمنت لهم الدعم المعنوي والمادي. وكانت من بين الأوائل الذين أضاؤوا على هذا المرض المجهول من قبل الكثيرين من خلال حملات التعريف بأعراضه وطرق مواجهته. «كنا ولا نزال تقول السيدة جاين كوسا رئيسة الجمعية نتكفل بكلفة صور الرنين المغناطيسي وفحوصات الدم وكلفة دخول المستشفى لتلقي العلاج كما كلفة العلاج الفيزيائي. وكنا نغطي الـ 5% المتبقية من سعر الأدوية بعد تغطية الضمان. ولكن بعد رفع الدعم وارتفاع أسعار الدواء صارت تغطية التكاليف في إطار المعجزة التي لا تستطيعها الجمعية».
ما عاد في استطاعة الجمعية التي تعتمد على التمويل الذاتي وبعض التبرعات تحمّل كلفة الدواء لكنها لا تزال تساعد المرضى عند دخولهم الى المستشفى لتلقي الإبرة الشهرية وتؤمن الفحوصات المطلوبة رغم ارتفاع اسعارها وتقف الى جانب مرضاها. «لا شك ان هناك مرضى قادرين على شراء أدويتهم وثمة مؤسسات مقتدرة تهتم بهم، لكن الغالبية لم تعد قادرة. من هنا كانت وقفتنا صرخة إنسانية ليتمكن هؤلاء المرضى وهم آباء وأمهات وأبناء في عز عطائهم أن يكملوا حياتهم بكرامة وشرف فلا تُسرق احلامهم وتتعثر مسيرتهم وتتراجع حالاتهم لأن دولتهم تقاعست عن الوقوف الى جانبهم، أردناها وقفة لحثّ المعنيين على التحرّك الفوري لإيجاد الحلول كي لا يصاب المرضى بالعجز وينتهي بهم الأمر بعدم القدرة على الحركة».
فهل تصغي الحكومة الى صرخة مواطنيها أم انها كما وصفها نقيب الصيادلة د. جو سلوم ترتكب إبادة جماعية في حق مرضى السرطان والتصلب اللويحي بدل تحمل مسؤولياتها ووضع سلامة المرضى وصحتهم في سلّم أولوياتها؟