صفقة غزة والتّداعيات في لبنان

إذا سار كل شيء على ما يرام نكون قد بلغنا المرحلة الأخيرة من الحرب في غزة بين إسرائيل وحركة "حماس"، وبذلك نطوي صفحة حرب دامية ومدمرة وكارثية دامت أكثر عامين ونيف.

يوم الأحد يُفترض أن يكون الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إسرائيل. وفيها سيخاطب الكنيسيت الإسرائيلي بمناسبة حضوره مراسم التوقيع على صفقة وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في غزة. والحقيقة أنها لحظات تاريخية تعيشها المنطقة القلقة من ألّا تكون الصفقة الفصل النهائي الذي يُخرج غزة والمنطقة من مسار الحروب. فقد اعتدنا نحن المراقبين في الشرق الأوسط أن نتعامل بكثير من الحذر مع الأنباء السارة، انطلاقاً من مقولة نؤمن بها ألا وهي "أنه في الشرق الأوسط ننام على واقع ونصحو على واقع آخر مختلف".

من هنا التفاؤل مهم لكنه لا يلغي ضرورة التحلّي بالحذر الشديد، لأن ملف غزة لم يُقفل نهائياً. ولأن تطبيق الاتفاق لم يبدأ بعد، وأيضاً لأن المنطقة التي تميل بمعظم الدول العربية الساحقة نحو تأمين الدعم الأقصى لصفقة إنهاء الحرب، تعرف تماماً أن ثمة طرفاً إقليمياً يعارض الصفقة معارضةً غير علنية، لأنها تشكل دليلاً آخر إلى فشل مشروعه التوسعي في الإقليم. نحن نتحدث عن إيران التي تعيش راهناً أكثر المراحل ارتباكاً وتقلّباً، وذلك بعدما تعرضت نفسها لضربة عسكرية إسرائيلية-أميركية مباشرة وقاسية في شهر حزيران الماضي. هذه الضربة دفعت قيادتها العليا إلى التفكير ملياً بحقيقة ما آل إليه واقعها على الخريطة الجيوسياسية الإقليمية.

أكثر من ذلك، دفعت الضربة المذكورة القيادة الإيرانية إلى إدراك حجم الفشل الكبير الذي مُنيت به السياسة الإيرانية في المنطقة، فضلاً عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الداخل. ولا ننسى أن الداخل الإيراني يغلي أيضاً على وقع عناوين سياسية كبيرة، لا سيما أن الأزمات المعيشية، والاقتصادية والثقافية، والاجتماعية، والأمنية، باتت تشكل عبئاً كبيراً على المجتمع الإيراني الذي لا بد أنه فهم بالملموس وبالتجربة من خلال نتائج حربي غزة ولبنان، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا وانهيار المنظومة الإقليمية لإيران، أن ثمة فشلاً ذريعاً في الخيارات الوطنية والقومية للنظام الإيراني، معطوفاً عليه فشل كبير بسبب الانعكاسات الكارثية على الاقتصاد الوطني وحالة خزينة الدولة المزرية... فقد بدد النظام الإيراني في حروبه على مدى أربعة عقود ونيف مئات مليارات الدولارات، ذهبت من أمام 100 مليون مواطن إيراني يعانون على كل الصعد في الداخل.

وعلى الرغم من أن طهران تتعمد تظهير التهديدات العسكرية الأميركية والإسرائيلية تجاهها، وتضخيم تلك التهديدات وتحويلها إلى مادة إعلامية ودعائية يومية للمواطن الإيراني، فإن المشكلة الأساسية التي يعانيها النظام الإيراني اليوم ليس مصدرها التهديدات الخارجية، بل إن مصدرها الرئيسي هو الداخل الإيراني، وحالة التذمر والغضب الشعبي من سوء الأحوال على كل الصعد الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية، فضلاً عن بروز حالة مقلقة جداً من ترهّل النظام وتآكله داخلياً بفعل تراجع تأثير "البروباغاندا" الدينية، وتراجع صدقية النخب المنتمية إلى المؤسسة الدينية الغارقة في فساد لا حدود له.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تراجع نفوذ المؤسسة الدينية المعنوي والثقافي في أوساط الشباب والنساء (بعد أزمة قتل الشابة مهسا أميني)، إضافة إلى فداحة الأخطاء التي ارتكبتها المؤسسة العسكرية المؤدلجة في خياراتها التوسعية في الشرق الأوسط، وتورطها بنزاعات أمنية خطيرة مع الغرب والمحيط العربي، انتهت بإيران إلى أن تعيش عزلة خانقة يشعر بها المواطن الإيراني في حياته اليومية.

هذه الأعراض التي تعانيها إيران عامةً، وقد تفاعلت مع انهيار مشروعها في منطقة الشرق الأوسط، يعانيها "حزب الله" في لبنان. فالذراع الإيرانية الأهم في المنطقة تعرضت لضربة عسكرية إسرائيلية قاصمة أدت إلى تقويض قدراتها العسكرية إلى حد بعيد.

وبعد مرور أكثر من عشرة أشهر على وقف الأعمال العدائية بين "حزب الله" وإسرائيل، لا تزال الأخيرة تقتل يومياً ناشطي الحزب، ومقاتليه، وقادته الميدانيين، بطريقة تريد منها إبلاغ الحزب وقيادته العليا رسالة مفادها أن القتل سيستمر إلى أن يسلم هذا الأخير سلاحه بالكامل.

عندما يبدأ تنفيذ صفقة غزة سينتقل الجهد الإسرائيلي - الأميركي بقوة إلى الساحة اللبنانية وفق القاعدة الآتية: انتهى زمن التسامح مع حزب مسلح على الأراضي اللبنانية! ومعنى هذا أن الضغط العسكري في لبنان سيعود إلى الارتفاع بقوة في المدى المنظور!