صورة الإفلاس على الصخرة

حسناً. استطاع "الحزب" أن يكسب معركة رمي الصورة الضوئية لأمينيه العامين على صخرة الروشة. فهنّئوه، فهذا أول نصرٍ يحققه منذ عام 2000.


في تحدٍّ سافرٍ لقرار حكومي لبناني سطره رئيس مجلس الوزراء نواف سلام، فعل "الحزب" ما يريد، غير آبهٍ بما يمكن أن يحدث من تداعيات سياسية وأمنية. لكن... أكان هذا الأمر يستحقّ كلّ هذا الاحتقان في ساحة مشدودة لا تحتمل، من طرفٍ يمارس أعلى درجات النكران؟ يبدو أن الأمر يستحق. ولكن... ما كان هدف "فعالية إنارة صخرة الروشة بصورة نصرالله وصفي الدين" تخليداً لذكرى مرور عام على اغتيالهما، إنما لأمرٍ في نفس يعقوب. وما هذا الإصرار إلا دليلٌ فاقع على إفلاس سياسي نادراً ما بلغته حركة سياسية في لبنان.

إن إفلاس "الحزب" بعد هزيمته في حرب إسناد غزة ضد إسرائيل أضعفه إلى درجةٍ ما بقي فيه حَيلٌ إلا لافتعال المشكلات مع حكومة لبنانية هي أضعف الأطراف على الساحة الداخلية، بعدما أنهت إسرائيل أسطورة "درّة تاج محور المقاومة" ووهم "اللاعب الإقليمي الأقوى في الهلال الشيعي". فظلّ تحدّي "نواف" — كما يناديه صبيان "الحاج" من أبطال "المقاومة على تيك توك" — متنفّسه العسكري الوحيد.

إن كان لنا أن نقيس قوة الطرفين، سلام و"الحاج" —الشيخ نعيم قاسم ليس في الصورة طبعاً — وأن نفرّق بينهما، ففي "الجعجعة من غير طحين" لا نجد من يبارز صبيان "الحزب" اليوم ولا من يفوز عليهم. وربما على مَن بقي من قادة "الحزب" حياً أن يخرج ولو متراً واحداً من حالة نكران الهزيمة، كي يدرك أن ما فعله سلام ببنيامين نتنياهو لم يستطع "الحزب" فعله بكلّ ما زعم أن في جعبته من صواريخ دقيقة ومسيرات حديثة وإمكانات عالية، لا تُبقي من إسرائيل شيئاً، وفي دقائق معدودات. فسلام حكم في المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو، في قرارٍ أخرجه من الجنائية الدولية نفسها بحجة ترؤسه حكومة لبنان، فلا يستطيع رئيس وزراء إسرائيل زيارة أي دولة أوروبية أو آسيوية خوفاً من تنفيذ مذكرة الاعتقال بحقه. حتى أنه في رحلته الأخيرة إلى نيويورك،كان همّ حكومته ألا تعبر طائرته أجواء دولٍ قادرة على القبض عليه وسوقه مخفوراً إلى المحاكمة.

في المقابل، ماذا فعل "الحزب"؟! إلا جرّ الخراب على لبنان وعلى شيعة لبنان، والتسبب بدمار قرى بكاملها في نطاق يتجاوز ثمانية كيلومترات من الحدود اللبنانية–الإسرائيلية، تؤلف الآن شريطاً "منزوعَ الحياة"، وإعادة إسرائيل إلى احتلال خمس نقاط في الجنوب بعدما كان وجودها محصوراً في مزارع شبعا، السورية أصلاً. فإن لم تكن هذه علامات الهزيمة، فماذا تكون؟

يعيش "الحزب" اليوم حالةً متفاقمةً من الإنكار السياسي–الأمني–الاجتماعي، تجعله أشدّ ميلاً إلى التحدّي غير المجدي وإلى العنف العشوائي. ولهذا، يصبح الكلام عن تسويات آمنة للبنان مدعاة اتهام بالعمالة وتلويحاً بالحرب الأهلية. وإن كانت الحكومة تسعى إلى كفّ الأذى الإسرائيلي عن البلد وعن "الحزب" نفسه بتدابير إصلاحية تنهي طفيلية دويلة "الحزب" لصالح الدولة، فليس ذنبها أن يكون "الحزب" — متلطياً خلف أخيه الأكبر نبيه بري — هو من وافق على اتفاق 1701 منقّحاً ومزيداً.

 

ما فاقم حالة إنكار "الحزب" هو "تكويعة" أمينه العام في مسألة فتح صفحة جديدة مع السعودية. وأمام هذا التهافت السياسي، بقي تحدّي "نواف" سبيل "الحزب" الوحيد المتاح لشدّ عصب الشيعة الذين بدأت نخبة منهم تنفكّ عنه، بعدما علت أصوات في الحوارات السياسية وفي تصريحات فردية على وسائط التواصل الاجتماعي تتهمه بجرّ الطائفة ولبنان إلى صراعات عبثية، خدمةً للمحور الإيراني.

جمعُ الناس في الروشة، والترويج لصبيان يتطاولون كلامياً على رئيس الحكومة، ونساءٍ يصرخن "نواف سلام صهيوني"، هو أعلى سقف يصل إليه "الحزب" اليوم. ولا حَيل فيه لمواجهات أكبر. ورمي صورةٍ ضوئية لنصرالله على صخرة الروشة مسألةٌ نافلة؛ كان على سلام ألا يعطيها "ذات أهمية"، فـ"الحزب" يصوّرها تذكيراً بسيطرته السابقة على مقدّرات البلد، لا أكثر. وإن كان يظن أنه حوّل صخرة الروشة إلى "حُجرة" جديدة لأمينه العام الراحل، فهذا يدخل في حالة النكران نفسها، ولا فائدة من استعادتها ثانيةً هنا.

ما قاله "الحزب" في الروشة ينسحب على مسألة السلاح. فإظهار سلام عاجزاً عن منعه من تنفيذ ما يريد سبيلٌ للقول صراحةً لأميركا إنه عاجز عن حصر السلاح بيد الدولة. وهذا يترك الباب مفتوحاً على شتى الاحتمالات. فمن يمنع إسرائيل من أن ترى في صورة نصرالله على الصخرة تأكيداً على هيمنة "الحزب" على البلد، فتذهب حينها المبادرة الأميركية أدراج الرياح بحجّةٍ لا يمكن ردّها: حكومة لبنان ضعيفة لا تستطيع تحجيم "الحزب"؟ أليست هذه حجّة كافية لإسرائيل كي تعود إلى الحرب؟

لا أريد الحرب. ولا أريد الحزب. وليكن لكلٍّ منا دولته. فإن كان يريد في ما يراه حقاً له، فليكن ما أريد حقاً لي ولأولادي: عيش هانئ بعيداً عن المحاور والمجازر، وعن مسيرات تحدد المصائر، ولا من يردّها إلا بمزاعم وأكاذيب، لا يصدقها إلا أخرق الناس.