"طبخة" الحدّ الأدنى للأجور: هل يحصد العمال 900 دولار؟

عند كلّ استحقاق لتعديل الحد الأدنى للأجور ليتناسب مع مستوى غلاء المعيشة، يُستأنَفُ السجال بين ممثّلي العمّال وممثّلي أصحاب العمل. فالطرف الأوّل يريد تحسين أحوال أبنائه والطرف الثاني يريد حماية مكتسبات أربابه. وبينهما، تقف وزارة العمل عاجزة عن الإتيان بحلٍّ توافقيّ مناسب، فيُترَك الملف لـ"المزيد من المشاورات والنقاشات بهدف التوصّل إلى صيغة ممكنة"، وفق ما قاله وزير العمل محمد حيدر، في بيان أعلن خلاله تأجيل اجتماع لجنة المؤشّر من 28 نيسان الجاري إلى 7 أيار المقبل، بعد فشل التوصّل إلى صيغة ملائمة لرفع الحدّ الأدنى للأجور مع ما يرافقه من زيادة حجم تعويضات نهاية الخدمة.

ومن أسباب هذا الفشل، رفض الهيئات الاقتصادية الممثّلة لأصحاب العمل، الزيادة المطروحة من قِبَل ممثّلي العمّال، ومنهم الاتحاد العمالي العام، والتي تستند إلى "دراسات"، في حين يعتبر أصحاب العمل أنّ الزيادات لا يمكن أن تتعدّى الـ50 بالمئة، نظراً إلى أنّ المؤسسات الخاصة تعمل راهناً "في ظروف غير طبيعية". فكيف سينتهي هذا السجال؟.

أرقام متفاوتة
تنتظر وزارة العمل توصُّل الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية إلى "أفضل صيغة ممكنة تتعلق بمسألة رفع الحد الأدنى للأجور"، الذي سيحل محلّ الـ18 مليون ليرة (200 دولار) أي الحدّ الأدنى الحالي المعمول به منذ مطلع نيسان 2024. على أنّ "يضمن" الرقم المنتَظَر "العدالة للعاملين، ويأخذ في الاعتبار الظروف الاقتصادية والاجتماعية الراهنة"، وفق بيان وزير العمل. علماً أنّ هذا الرقم لا يختصر كلّ الأزمة، إذ يلحَق تحديده، جملة من الزيادات، كبدل النقل والمِنَح المدرسية والجامعية والتعويضات العائلية والتقديمات الاجتماعية والصحية.
وحتى اللحظة، تختلف الأرقام المتداوَلة بين حدّ أدنى "عند مستوى 50 مليون ليرة (نحو 550 دولاراً)، وصلنا إليه مع الهيئات الاقتصادية"، بحسب ما أكّده لـ"المدن" رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، وبين "زيادة 50 بالمئة على الحدّ الأدنى الحالي، ليصبح 300 دولار"، بحسب ما قاله لـ"المدن" رئيس لجنة التجارة بغرفة بيروت ورئيس جمعية تجار جونية وكسروان الفتوح، جاك حكيم.
ولكلّ طرف تبريره لاعتماد الحدّ الأدنى الذي يراه مناسباً. فأشار الأسمر إلى أنّ "الأرقام التي نطرحها مبنية على دراسات، في حين تعتبر الهيئات الاقتصادية أنّ هذه الأرقام لا تتناسب مع الواقع". وبفعل عدم التوافق على رقم محدّد "بات هناك تباعداً بيننا في الرؤية حول الأجر ومتمّماته، فيما واقع الأجر الحالي لا يتناسب مع الغلاء المعيشي".
وبدوره، لا يُنكر حكيم "ضرورة رفع الحدّ الأدنى للأجور، لكن بنسبة لا تضرّ المؤسسات المتبقّية في القطاعات الإنتاجية. فإذا رفعنا الحدّ الأدنى بمعدّل 100 بالمئة، أي إلى 200 دولار، فإن المؤسسات التي فيها أعداد كبيرة من العمّال، ستتهرّب من هذه الزيادة، فلا مصلحة لصاحب المؤسسة بهذه الزيادة، وسينتقل للاعتماد على العمالة الأجنبية أو إلى طرق غير قانونية، وهذا ما لا نريده كهيئات اقتصادية. ولذلك نتواصل مع وزارة الاقتصاد ووزارة العمل لنطلب حماية المؤسسات التي لا زالت تعمل كانتحارية في هذه الظروف غير الطبيعية التي مرّ بها البلد، من أزمة اقتصادية وأزمة المصارف وفيروس كوفيد 19 وتفجير مرفأ بيروت وتعطيل الدولة والحرب الإسرائيلية". ويعوّل حكيم على التوصّل إلى اتفاق حول الحدّ الأدنى الجديد "فنحن مجبرون على تعزيز قيمة العامل، فهذا يحسِّن الاستهلاك ويقوّي حركة السوق".

التصريح للضمان الاجتماعي
عدم التوافق على رقم موحّد للحدّ الأدنى للأجور، يرتبط بما هو أبعد من قدرة أو عدم قدرة أصحاب العمل على دفع أجور أعلى. فبالنسبة للأسمر تعقّدت الأمور مع أصحاب العمل لأنّ "جزءاً كبيراً منهم لا يريد التصريح عن الأجر الفعلي للموظّف، وبالتالي لا يريد دفع الاشتراكات الحقيقية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي".
وتبيان ما في كواليس رفض رفع الحدّ الأدنى إلى ما يراه العمّال مناسباً، يُعَدُّ "سطوة غير طبيعية على الأجير الذي يخضع في النهاية لأنه بحاجة للعمل". وفي السياق، قال الأسمر إنّ هناك "نحو 60 بالمئة من العمال المضمونين، مصرَّح عنهم وفق الحدّ الأدنى للأجور، فيما هم يقبضون أعلى من الحدّ الأدنى، وهذا يحرمهم من التعويضات الفعلية". ولفتَ الأسمر النظر إلى أنّ "الدولة تتهرَّب أيضاً من واجباتها في هذا المجال، إذ تعطي الموظفين أموالاً تحت مسمّى مساعدات، كي لا تدخل في صلب الراتب وتُحتَسَب التعويضات وفقها".
أيضاً، أيَّدَ عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي صادق علوية، أنّ "أصحاب العمل لا يريدون التصريح عن الرواتب الحقيقة. وبذلك نكون أمام تهرّب ضريبي". وبحسب ما أكّده لـ"المدن"، فإنّ التصريح عن الرواتب الحقيقية "يعزّز التقديمات الاجتماعية وتقديمات المرض والأمومة. ولو كانت المؤسسات تصرّح عن الرواتب الفعلية، لما كنّا نبحث اليوم عن زيادة 100 أو 200 دولار". ولا يقف علوية عند الرقم الذي طرحه الأسمر "فهذا الرقم بعيد عن المنطق"، أي أنّ المطلوب أعلى.
وانطلاقاً من واقع أنّ المؤسسات تعطي رواتب أعلى من الحدّ الأدنى الذي تصرّح عنه، أوضح علوية أنّ "زيادة الحدّ الأدنى من الأجور لا تعني زيادة الرواتب، وإنما يتّصل الأمر بإلزام المؤسسات بالتصريح للضمان الاجتماعي عن حدّ أدنى أعلى ممّا هو عليه اليوم، فتصبح ملزمة بزيادة اشتراكاتها للضمان، وتالياً تعزيز مالية الضمان. وعليه، يمكن الآن معرفة السبب الحقيقي وراء ما يحصل".

الأمور مطبوخة
بين رقم هنا وآخر هناك، قفزَ الباحث في شركة "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين إلى أنّ "الحدّ الأدنى للأجور يفترض أن لا يقلّ عن 900 دولار". وهذا الرقم يستند بحسب ما قاله شمس الدين لـ"المدن"، إلى مؤشّرات التضخّم. ولأن الحدّ الأدنى للأجور "يجب أن يحدَّد وفقاً لنسبة التضخّم وكلفة المعيشة وقدرة المؤسسات على التحمّل"، قامت الدولية للمعلومات بدراسة الاحتياجات الضرورية للأسرة، للمساعدة في تبيان الحدّ الأدنى للأجور المطلوب.
وأكّد شمس الدين أنّ "الإحصاء المركزي قال إنّ معدّل التضخّم منذ العام 2020 حتى الآن وصل إلى 677 بالمئة. في حين أنّ احتساب الاحتياجات الشهرية لأسرة من 4 أفراد، يبيّن أنّ عليها دفع ما بين 200 إلى 400 دولار كإيجار منزل، وبين 250 إلى 300 دولار للسلة الاستهلاكية، ونحو 10 دولارات عن كل ولد في المدرسة الرسمية، و20 دولاراً لكلفة النقل و10 دولارات للاتصالات ونحو 15 دولاراً كلفة اشتراك مياه الدولة ونحو 10 دولارات لشراء مياه للشرب ونحو 20 دولاراً للألبسة ونحو 45 دولاراً كلفة كهرباء الدولة ونحو 75 دولاراً لكهرباء المولّدات الخاصة، وبدون احتساب كلفة الاستشفاء، نصل إلى أنّ الأسرة تحتاج بين 675 دولاراً كحدّ أدنى وبين 1200 دولار كحد أقصى لتأمين ضرورياتها، أي إلى متوسّط أجر 900 دولار. علماً أنّ المادة 44 من قانون العمل تنصّ حرفياً على أنّه يجب أن يكون الحد الأدنى من الأجر كافياً ليسد حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته".
ودعم شمس الدين رأيه بأنّ "كل المؤسسات رفعت أسعارها بما يتوافق مع قيمة الدولار، ما عدا أجور العمّال. فهناك 80 بالمئة من المؤسسات قادرة اليوم على تحمّل كلفة زيادة الحد الأدنى للأجور، فضلاً عن أن الدولة يمكنها التحمّل أيضاً". وفي المقابل، فإنّ "20 بالمئة من المؤسسات غير قادرة على التحمّل، وهذه يمكنها تقديم أوراقها إلى وزارة العمل ووزارة الصناعة ليتم إيجاد صيغة معيّنة لدعم قدرتها، عبر فرض ضرائب على العمالة الأجنبية، لتغطية دعم زيادة الحد الأدنى للأجور في تلك المؤسسات". وفي ظل إظهار القدرة بالأرقام، فإنّ "الحديث عن عدم القدرة، أمر غير صحيح".

بين إعطاء الوزير مهلة زمنية لمحاولة التوصّل إلى اتفاق، وبين موقف الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية، اعتبر شمس الدين أنّه "يمكن رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 300 دولار أو أكثر بقليل، لكن سنبقى أمام المشكلة عينها، وهي عدم تناسب الأجور مع احتياجات الأسر". وقلَّلَ شمس الدين من امكانية التوصّل إلى رقم مناسب، لأنّ "الأمور تُطبَخ في لجنة المؤشّر بما يتوافق مع مصلحة أرباب العمل، وهو ما يحصل مراراً، ولذلك لم نعد نحضر اجتماعات اللجنة". ولحسم الجدل "على وزير العمل أخذ القرار المناسب".