طفولةٌ مهدورة... بأمومةٍ في عمر الطفولة!

"من يروّج لثقافة مواجِهة للزواج المبكّر في مجتمعنا يخدم الشياطين وإبليس ويسعى الى تخريب مجتمعنا أخلاقيا"... قالها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بالفم الملآن ولم يكتفِ بذلك إنما طالب باعادة ترويج ثقافة تزويج القاصرات مجمّلاً الصورة بمصطلح "الزواج المبكّر"، ليسأل ساخراً: "هل هؤلاء يعرفون أكثر من الله الذي خلق الناس وطلب هذا الأمر من أنبيائه؟".

ماذا تشعر عندما تُدرك أنك تعيش في مجتمع فاقد لإنسانيته، متجرد من مسؤوليته تجاه بناته؟ ماذا تُراك تحسّ اذا علمت أن شقيقتك الصغيرة قد تكون من بين الفتيات اللواتي يتمّ تزويجُهنّ عند بلوغهنّ العادة الشهرية؟ ماذا ستفعل اذا رأيت طفلتك بين يدي رجل ينقضّ عليها وهي لا تفهم ما معنى أن تكون زوجة؟ كيف يمكن أن ترى ابنة الـ12 سنة حاملا وبين يديها رضيع وفي نفسها أن تحمل دمية؟

لم تعد مسؤولية تزويج القاصرات تقع على عاتق الأهل فحسب، إنما يتحمّل مسؤولية تدمير حياة الأطفال لاسيما الفتيات في لبنان، رجال الدين الذين يستغلون سلطتهم الروحية للتشجيع على هذا النوع من الزيجات وقوانين الأحوال الشخصية التي تشرّعها بدلاً من حماية الأطفال من هذا العنف الجسدي والمعنوي.

 

التوصيات الدولية تجزم... ماذا عن القانون اللبناني؟

عاد موضوع تزويج القاصرات الى الواجهة مجدداً بعد كلام نصرالله الأخير واستمرار مطالبة الجمعيات الحقوقية بتحديد السن الأدنى للزواج وتقديم مشروع قانون معدّ من قبل التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني لحماية الأطفال من التزويج.

وفي وقت لا تزال قوانين الأحوال الشخصية اللبنانية في مختلف الطوائف والمذاهب تسمح بتزويج من هم دون الثامنة عشرة من عمرهم، حظّرت الإتفاقيات والتوصيات الدولية تزويج الأطفال وقد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنه "من حق كل إنسان أن يوافق على زواجه بشكلٍ كامل لا إكراه فيه، مع الاعتراف بأن القبول لا يكون كاملاً ولا إكراه فيه عندما يكون أحد الطرفين المعنيين غير ناضج وغير قادر على اتخاذ قرار يتعلق باختيار شريك العمر".

وإلى هذا الإعلان تضاف المادة 16 من اتفاقية "القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة"، وهي تنصّ صراحة على الحق في الحماية من زواج الأطفال، بحيث "لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني، وتتخذ جميع الإجراءات الضرورية، بما في ذلك التشريعية منها، لتحديد سنّ أدنى للزواج".

وعلما أن لبنان هو من الدول التي وقّعت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعلى اتفاقية "القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة"، إلا أن القوانين اللبنانية لم تحدد السن الأدنى لأهليّة الفتاة للزواج، فيما تقرّ بعدم أهلية كل فتاة قاصر (أي ما دون الـ18 عاما) لقيادة السيارة (قانون السير) ولالتزام العقود (قانون الموجبات والعقود) او للترشح والانتخاب (قانون الانتخابات).

فكيف يمكن لفتاة قاصر أن تكون أهلاً لإنشاء أسرة في وقت يعتبرها القانون قاصراً في مواد قانونية أخرى؟

 

اقتراح قانون جديد يشقّ طريقه الى البرلمان

إقتراح القانون المعدّ من قبل التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني، يعرّف الطفل بأنه "الإنسان الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره" بشكل يتماشى مع اتفاقية حقوق الطفل ومع المادة 240 من قانون العقوبات اللبناني، كما أنه يحدّد سنّ الزواج بثماني عشرة سنة على كل الأراضي اللبنانية تماشياً مع السن القانونية للزواج عالمياً.يشدّد الإقتراح العقوبات بحق كل من يقوم بتزويج الأطفال ويلغي الإستثناءات التي تفتح مجالاً واسعاً للمخالفات.

مشروع القانون هذا يأتي كطرح ٍمقابل لإقتراح القانون المقدّم من النائب غسان مخيبر تحت عنوان "تنظيم زواج القاصرين" والذي يُناقش حالياً في لجنة "المرأة والطفل" البرلمانية. إذ أن الجمعيات النسائية والحقوقية تنتقد اقتراح مخيبر وترى أنه لا يضع حداً أدنى للزواج ولا يمنع عقد زواج للقاصرين، بل يسمح بحدوثه في وجود قاض مدني.

منظمة "كفى عنف واستغلال" نظمت حملات عديدة مناهضة لزواج القاصرات وشاركت في الندوة التي عقدت في المجلس النيابي الأسبوع الماضي والتي تناولت هذا النوع من الزيجات، كما أنها ضمن التحالف الذي أعدّ اقتراح القانون الجديد. "المبدأ واضح: يجب عدم تزويج الأطفال بأي شكل من الأشكال وليس هناك أهلية قانونية تعاقدية لأي شخص يُعتبر طفلاً وعليه يجب ألا يُعقد أي زواج لشخص لم يبلغ الـ18 سنة في أي ظرفٍ من الظروف"، حسب ما أكدت مسؤولة الإعلام والتواصل في منظمة "كفى" مايا عمّار في حديث لموقع Kataeb.org.

وردًّا على تفسير بعض رجال الدين لمصطلح "الزواج المبكّر" الذي استخدمه نصرالله بأنه قصد فيه الفتيات اللواتي بلغن الـ16 أو الـ17 من العمر، قالت عمّار إن "قوانين الأحوال الشخصية وتحديداً لدى الطائفة الشيعية تحدد سنّ الزواج بسنّ البلوغ ومن المتوقع أن تبلغ الفتاة في التاسعة، واذا كان المقصود من كلامه عن الزواج المبكّر الفتيات البالغات الـ16 والـ17 سنة، فليغيروا القانون وليمنعوا تزويج الفتيات اللواتي لا يتعدى عمرهنّ التسعة".

 

كيف ينظر علم الإجتماع وعلم النفس الى تزويج القاصرات؟

كيف للقاصر أن يأخذ قراراً واعياً وناضجاً قبل بلوغه سنّ الرشد؟ كيف له أن يقرّر مصير حياته وهو لا يزال طفلا في نفسه؟ من يسمح لأولياء أمر القاصرات محو هوية الفتاة واستضعافها إلى هذا الحدّ وتقرير مصيرها بدلاً عنها؟ كيف يمكن اعتبار بلوغها العادة الشهرية انتهاءً لنموّها الجسدي، في وقتٍ هو ليس إلا شرارة إنطلاق هذا النمو؟

الخبيرة في علم النفس الإجتماعي الدكتورة مي مارون تشرح في حديث لموقع Kataeb.org أن "زواج القاصرات ظاهرة غير جديدة على مجتمعاتنا، هي ظاهرة سيئة لأنّ سنّ الرشد المحدّد عالميا من قبل المجتمعات الصناعيّة المتقدّمة، هو 18 سنة وذلك كي يأخذ الفرد قرارا واعيا وناضجا وكي يكون قد بلغ مرحلة النضوج العقلي والجسدي الكافيين".

وفي وقتٍ يعتبر اللبنانيون أن مجتمعهم قد تقدّم وأصبحوا يستخدمون أهمّ وسائل التكنولوجيا وأحدث السيارات، رأت مارون "أننا لا نزال نعيش في مجتمعات قبليّة ولو نبدو أننا قد تقدّمنا الا أن العقلية لا تزال قبليّة، ولذلك لا تزال متعلّقة بتزويج القاصرات، فنحن نعتقد أن الفتاة عندما تبلغ أو عندما تصبح في سنّ أكبر من البلوغ بقليل، يصبح المطلوب منها أن تتحوّل إلى زوجةٍ وأمٍ بما أنها لن تشغل وظيفة ولن تصرف على المنزل فالبعض لا يرى في الفتاة إلا ذلك، ولا تزال العقلية القبلية تعتقد أنه من الأحسن للزوج أن "يربي" زوجته على يديه".

ولتزويج القاصرات آثار نفسية وجسدية سلبية جداً على الطفلة، فقد أوضحت مارون أن "هذا النوع من الزواج يمنع الطفلة من عيش مراهقتها لتعود وتعيشها في وقت لاحق مع أولادها فهي تكون غير مشبّعة عاطفياً ولا تعرف كيف تتصرّف كزوجة وشريكة، كما أنها ستواجه مشاكل جسدية عديدة نتيجة الحمل المبكر لاسيما في العمود الفقري".

"بعد السكرة تأتي الفكرة"... مثلٌ شعبي ينطبق على الطفلة الزوجة التي ستصبح شابة راشدة، وفي ذلك الوقت سيسيطر الندم على نفسها بعد أن تكون قد أدركت أنها لم تختر بنفسها شريك عمرها وأن الذي فُرض عليها لم يكن بإرادتها إنما هناك رغبات لم تشبعها بعد وأحلام لم تحققها، ويكون قد فات الأوان وأصبحت في مكان لا طريق للعودة منه. "مرحلة الندم تأتي بعد إدراك الفتاة أنها هدرت مرحلة شبابها في التزامات عائلية"، بحسب الدكتورة مارون.

وفي ما يخصّ الأثر النفسي على أولاد الزوجة القاصر، أوضحت مارون أن "الفتاة لن تتمكن من تربية أولادها لأنها هي في الأصل لا تزال مراهقة، وفي هذا السنّ يكون الشخص مثل البركان كل العواطف والقرارات تغلي في داخله، ولا يعرف أي قرار يأخذ وهي ستربّي أولادها كأنها تلعب مع دمية من دون مسؤولية ولن تتمكن من تربيتهم على أن يصبحوا أفرادا أقوياء في المجتمع لأنها في الأصل ضعيفة".

وإزاء تغيّر المجتمع بين الماضي والحاضر، أشارت الى أن "الثنائي المتزوج في الأمس كان يعيش ضمن العائلة الممتدّة أي أن الأم والحماة كانتا تساعدان في تربية الأولاد، أما اليوم فقد أصبحت العائلة نواتيّة فيُترك الثنائي لأمره من دون مساعدة ولا نصائح وهذه الزيجات محكوم عليها بالفشل ومحكوم على الأولاد بعيش النقص".

إنه جريمة مُشرّعة، جنحة مُستباحة وخطيئة مغفورة... تزويج القاصرات دفنٌ بفستان عرسٍ، اغتصابٌ تحت مسمّى الحبّ والزواج. لعلّ القانون الجديد، إذا أقرّ، يردّ لمجتمعنا بعضاً من إنسانيّته المفقودة، لعلّه يمنع سلب طفولة فتياتنا ويحيمهنّ من أمومةٍ لا تزال فضفاضة عليهنّ.