المصدر: Agencies
الأربعاء 23 حزيران 2021 20:11:39
كتب الصحافي رامي الأمين في موقع "درج" عن مأساة ماتيو علاوي:
كنتُ أعمل. وقلت آخذ استراحة قصيرة ألقي نظرة على فايسبوك. أنا مثل كثيرين، ومثلك، أهرب إلى الفايسبوك، ثم أهرب منه. وأعمل ليلاً لأهرب من الأرق والتفكير و”الإنكزايتي” التي تأكلني كما تأكل الأفاعي المربّعات في ألعاب الهاتف القديم.
ربما لم تحمل انت يا ماثيو هاتفاً مثله، لأن عمرك أصغر من عمري بكثير. هكذا تبدو لي من الصور. تبدو عشرينياً، وأنا أقترب من الأربعين. لكن “الانكزايتي”، أو اضطراب القلق، تأكلك أيضاً. هذا واضح من منشوراتك على فايسبوك، أحدها الذي ازدحمت اسفله التعليقات المعزّية بموتك، مزدحم بالأفاعي: “أنا شخصياً عايش حالة يأس، كآبة، حزن، قرف، استسلام… ما قادر شوف مستقبل، ما قادر شوف وضع أحسن، ما قادر شوف أيام حلوة لبعيد…”. هذا جزء من المنشور الذي كتبته في 14 حزيران. اي قبل اسبوع تقريباً. وحاولتُ ان أتبين وقت نشرك له. هل كان بعد منتصف الليل؟ هل تكتب مثلي، في ليلك الحالك، حزيناً، مستسلماً لأفاعيك؟ تكمل في المنشور فتقول: “يمكن بالوقت الحالي بجرّب رفه عن حالي بأي وسيلة ممكنة… بس فعلياً، بتخلص لحظة الترفيه وبتروح معها الضحكة، وبرجع لنفس الحالة… كيف قادرين نعيش هيك؟ كيف قبلانين؟”. تستخدم مع المنشور هاشتاغ #لبنان و#كلن_يعني_كلن و#كسم_زعيمك. غالباً تستخدم هذه الهاشتاغات مع معظم منشوراتك.
أعذرني. دخلت إلى صفحتك ولسنا أصدقاء. دخلت إليها كمن يدخل إلى موقع جريمة مسيّج بالشرائط الصفراء بعد ذهاب المحققين والشرطة، وازالة الجثة. دخلت إلى صفحتك بحثاً عن أفاعيك، فأنا أعرف انها تختبئ هناك، وانها تهرب من الأضواء والضجيج. تلوذ بين الكلمات في صفحتك. تختبئ في جحورها التي حفَرَتها في روحك. وها أنا أعثر على جحر في “بوست” كتبتَه في السابع من حزيران معلناً نجاحك في إحدى مواد الطب: “هي نقطة مي جديدة على كباية كانت شبه فاضية بظل الأزمة اللي عم نقطع فيها… يمكن بتعب وبضعف ببعض المطارح، بقرر ارتاح وآخذ نفس، يمكن كمان بغضب، وحتى يمكن باخذ مفارق منها الي، بكوّع وبرجع بشق طريقي الخاص، بس الاستسلام مش وارد عندي… بحب الحياة، ورغم قساوتها رح ضل حبها ومتعلّق فيها…”. تطلّ الأفعى من الجحر وأنا أقرأ. لماذا استسلمت لها يا ماثيو؟ أسمع فحيحها من داخل الجحر المعتم. انت تدرس الطب إذاً، في بلاد تنهشها الأمراض، وتعيش على أجهزة الإنعاش. الأطباء الطموحون مثلك، يعرفون ان الحالة ميؤوس منها. وهذه أفعى أخرى تطلّ برأسها. أي جزء من دماغك كانت تأكل؟ أي قطعة من “بازل” حياتك كانت تلتهم؟
في السابع من حزيران أيضاً، نشرت صورتك وأنت تتلقى لقاح “فايزر” ضد فايروس كورونا. كان يوماً منتجاً وحافلاً. لا بد أنك شعرت بالسعادة لإنجاز المادة وتلقّي اللقاح في يوم واحد. في الصورة لا تنظر في الكاميرا. عيناك سارحتان بعيداً. خلفك من النافذة بدا البحر. بماذا كنتَ تفكّر؟ ذكرتَ 3 أهداف من الصورة: “تشجيع كل شخص بعد ما تسجل يتسجل/ تشجيع كل شخص خايف من اللقاح/ دحض كل الاشاعات يلي ما الها طعمة”. تلقيتَ اللقاح في يدك اليمنى يا ماثيو. حصّنت نفسك من كورونا، وشجّعت غيرك. لكن الأفعى كانت هناك أيضاً. تطلّ من بين أصابع يديك المشبوكتين في الصورة.
أحرّك إصبعي على صفحتك. انزل في زمنك، في حائطك، بحثاً عن الجحور والأفاعي. بحثاً عن يأسك الذي قتلك. ولا يبدو لي يأساً مختلفاً عن يأسنا جميعاً من الحال القاتلة التي وصلت إليها البلاد. انت تبدو واعياً تماماً للنفق المظلم الذي علقنا فيه. وتعلم تماماً من تسببوا بذلك. تسمّيهم كلهم. الزعماء كلهم، بلا استثناء: ميشال عون، نبيه بري، حسن نصرالله، سعد الحريري، سمير جعجع، جبران باسيل… وغيرهم. لا تميّز ابداً بينهم. تقول بوضوح: “لا يتحمّل حزب واحد مسؤولية ما يحصل… ما يحصل تتحمله المنظومة كاملة من 30 عاماً ليومنا هذا…”. تضع هاشتاغ #كلن_يعني_كلن وتتابع: “كل من هو في السلطة اليوم، وزراء، نواب، رؤساء، حكّام، قضاة، موظفين، مدراء”. كلهم شركاء في دمك يا ماثيو. كلهم نهش قطعة من روحك، وأحلامك وآمالك. هؤلاء كلهم، أبحث عنهم واحداً واحداً في الجحور التي تملأ صفحتك، وأراهم، أفعى بعد أخرى، يطلّون من منشوراتك، وأسمع حفيف اجسادهم اللزجة على حائطك.
اعذرني مجدداً. أمضيتُ وقتاً طويلاً في صفحتك. مررت على عدد كبير جداً من منشوراتك. معظمها اوافق عليه وبعضها لا. مثلاً موقفك من ضرب النازحين السوريين الذين انتخبوا بشار الأسد لم يكن موفّقاً برأيي. وكنت أتمنى لو تسنّت الفرصة لنتناقش فيه. لكننا لم نكن أصدقاء حينها. مع انني اشعر وأنا أتصفّح حسابك انني اعرفك من زمان. تذكّرني بأخي الأصغر. هو من جيلك. عشريني يناضل للبقاء هنا. فكّرت فيه وخفت. ارسلت له في وقت متأخر رسالة اطمئن إليه. لم أخبره شيئاً عنك. فقط تأكدت أنه “اونلاين”، على قيد الحياة.
قلّبت صورك المتاحة للعموم. أنيقاً ووسيماً تبدو في الصور يا صديقي. هل تسمح أن أناديك “صديقي”؟ في صورة لك من ايلول العام 2020 ظلّلت نفسك بالعلم اللبناني. وفي أخرى من كانون الثاني من العام 2021 وضعتَ قلباً مقسوماً بين نصف قلب والنصف الآخر خريطة لبنان. وأخرى كتبت عليها “لا ثقة”. وواحدة: “نعم للتحقيق الدولي” في قضية تفجير مرفأ بيروت. وفي الأخيرة، التي وضعتها قبل اسبوعين، تطالب بتطبيق القرار 1559.
انت ترسم معالم موقفك السياسي في كل هذه الصور. أنت مسيّس للعظم. وتفهم البلاد جيداً، وتعبّر تماماً عن نظرتك إلى الحل. في رسالة “sms” وجّهتها رداً على تحذير وزارة الصحة من مخاطر التدخين تكتب ما يشبه المانيفستو الخاص بك. تقول رداً على الرسالة: “هل تعلم ان الفقر الذي نعيشه لا يقلّ ضرراً عن التدخين؟ هل تعلم ان المنتجات الفاسدة وخاصة اللحوم والدجاج المنتشرة لا تقل ضرراً عن التدخين؟ هل كنت تعلم ان النيترات المخزن في المرفأ كان لا يقل ضرراً عن التدخين؟ هل تعلم أن الأزمة التي انت سببها والتي تؤثر على صحتنا النفسية لا تقل ضرراً عن التدخين؟ هل تعلم ان انقطاع الإنارة عن طرقاتنا والجور لا تقل ضرراً عن التدخين؟ هل تعلم ان السلاح غير الشرعي المنتشر في كافة المناطق لا يقل ضرراً عن التدخين؟ هل تعلم ان الحكومة الحالية، رئيس الجمهورية، مجلس النواب ورئيسه في بقائهم لا يقلون ضرراً عن التدخين؟”.
هل أشعلت سيجارة بعد ان كتبت هذه الكلمات؟ هل كنتَ تدخّن؟ تبدو لي كأنك لم تذق سيجارة في حياتك. هل سمعت فحيح الأفاعي وأنت تكتب هذه الكلمات؟ هل انتظرت رداً عليها؟
على صورة لك تواجه فيها البحر، والسماء من فوقك، تستعير من “مشروع ليلى” كلمات من احدى اغنياتهم وتقول: “كان بدي احمل السماء… وهلق أنجق حامل نفسي… قول إني منيح”. انا لم أحب “مشروع ليلى” يوماً. لكنني دخلت إلى يوتيوب واستمعت إلى الأغنية. وأعدتها مراراً. لقد حفظتها، وها انا اردد معهم، ومعك يا ماثيو: “ما زالك بلا شي ما فيك تخسر شي وأنا ملّيت من عشرة نفسي”.
اعذرني يا ماثيو. قبل ان اخرج من صفحتك ضغطت وأنا أستمع إلى الأغنية على خانة اضافتك كصديق. أرسلت لك طلب صداقة يا صديقي. أعرف أنك غير قادر على الضغط على زرّ “القبول” بعد فوات الأوان، و”لا شيء أسوء من فوات الأوان” كما يقول شارلز بوكوفسكي. لكنني اعرف انك تقبل صداقتي في العمق، فأنا، مثلك يوماً ماء، كما قال عباس بيضون لعلي شعيب، “على أرض أقلّ مجداً، سيقتلني حبي، سيقتلني حزني”.