المصدر: نداء الوطن
الكاتب: شربل صفير
الخميس 23 كانون الثاني 2025 06:41:42
يقف لبنان اليوم، الذي كان مضرب المثل في جمال طبيعته وغنى موارده، في قلب عاصفة عطش مائية تهدّد وجوده. وتحوّل لبنان من بلد الأنهار الجارفة والينابيع التي لا تنضب، وفي مقدمها نهر الليطاني الشريان الأكبر الذي كان رمزاً للوفرة والحياة، إلى وطنٍ يعاني العطش وسط وفرةٍ أهدرتها أيادٍ فاسدة وسياسات عمياء. لقد تحوّل الليطاني من نعمة إلى نقمة، بعد أن اغتاله التلوّث وسوء الإدارة، ليصبح شاهداً على كارثة وطن بأكمله.
ليست الأزمة المائية التي تضرب لبنان مجرد مشكلة عابرة، بل هي عنوان الانهيار الشامل في إدارة ثرواته، وشاهد حي على فسادٍ استنزف الأرض والناس.
كيف تحوّل لبنان من منارة بيئية في الشرق الأوسط إلى رمز للإهمال والانهيار؟ إنها مأساةٌ تُكتب بأيدي من خانوا الأمانة، وبدماء شعبٍ يُدفع نحو العطش والبؤس.
من مورد للماء إلى رمز للدمار
كان نهر الليطاني يُعتبر العمود الفقري للزراعة والصناعة في لبنان. وأصبح نموذجاً صارخاً للدمار البيئي والإداري. يمتدّ النهر عبر الأراضي اللبنانية، حاملاً معه إمكانيات هائلة للنهوض الاقتصادي والزراعي. لكن التلوث المتزايد الناتج عن النفايات الصناعية والصرف الصحي، إلى جانب غياب أي خطط حقيقية للتطوير، جعل هذا النهر رمزاً للفشل المؤسّسي. وبدلاً من أن يغذّي الليطاني الحقول ويوفّر المياه الصالحة للشرب، بات يشكّل تهديداً للصحة العامة ومصدراً للتلوّث، ما يعكس الحالة الكارثية التي وصلت إليها إدارة الموارد الطبيعية في البلاد.
الأرقام تكشف حجم الفشل
في حديث لـ "نداء الوطن"، قدّم رئيس المصلحة الوطنية لنهر الليطاني الدكتور سامي علوية، تشخيصاً دقيقاً لحجم الكارثة التي يواجهها لبنان. وأوضح أن البلاد تمتلك كميات هائلة من الموارد المائية التي يمكن استثمارها لتغطية احتياجاتها بالكامل، قائلاً: "يمكن فعلياً تغطية حاجات لبنان إلى المياه. إذ يبلغ حجم المياه المتجدّدة التي يمكن استثمارها 3,258,000,000 متر مكعب، بينما بلغ حجم الحاجات إلى المياه حوالى 1,935,000,000 متر مكعب فقط عام 2020".
أضاف: "تكمن المعضلة الكبرى في غياب إجراءات جادة للحفاظ على نوعية المياه أو تطوير الموارد المائية. فبالرغم من الوفرة النظرية في المياه المتجدّدة، فإن حجم المياه المتوفرة للاستعمال الفعلي لا يتجاوز 700,000,000 متر مكعب فقط، أي حوالى 21.49% من إجمالي المياه المتاحة".
ويشير الدكتور علوية إلى أن المشكلة ليست في نقص المياه، بل في الإهمال وسوء الإدارة. وقال: "على الرغم من أن حجم المياه المتاحة ازداد مع السنوات (من 700,000,000 متر مكعب عام 2020 إلى 775,000,000 متر مكعب عام 2025 وسيرتفع إلى 840,000,000 متر مكعب عام 2030)، إلّا أنّ الحاجة إلى المياه ستتصاعد بوتيرة أعلى من ذلك، ما سيرفع أكثر من حجم العجز إذا لم يتم تنفيذ أي مشروع يتعلّق بتحسين نوعية المياه وتطوير الموارد المائية".
أرقام العجز تكشف حجم الكارثة
مع استمرار التدهور البيئي وغياب الحلول الجذرية، فإن العجز المائي في لبنان مرشح للتفاقم بشكل خطير. وفقاً لتقديرات الدكتور علوية، ففي حال "كانت السنة الحالية ذات رطوبة وسطية سيزداد العجز من 1,235,000,000 متر مكعب عام 2020 إلى 1,450,000,000 متر مكعب عام 2025، ليصل إلى 1,730,000,000 متر مكعب في عام 2030. أما في حال كانت السنة جافة عشرية، فسيرتفع العجز من 1,410,000,000 متر مكعب عام 2020 إلى 1,625,000,000 متر مكعب عام 2025، ليبلغ 1,930,000,000 متر مكعب بحلول عام 2030".
الفساد وسوء الإدارة: الجاني الحقيقي
إذاً، المشكلة لا تكمن في ندرة الموارد، بل في غياب الإدارة الفعّالة والتخطيط السليم. ويمتلك لبنان ما يكفي لتغطية احتياجاته، لكن الفساد وسوء الإدارة يحولان دون تحقيق ذلك. تتسبّب الممارسات الإدارية غير المسؤولة في هدر المياه وتدهور نوعيتها، بينما تُهدر الأموال العامة على مشاريع متوقفة أو غير مكتملة. في حين أن تطوير البنية التحتية المائية يمكن أن يحلّ جزءاً كبيراً من الأزمة، لا تزال المؤسسات المعنية عاجزة عن اتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان
في قلب هذه الكارثة المدمّرة، يظلّ الأمل خيطاً هشّاً يشدّ عزائم من يعتقدون أن لبنان قادر على انتزاع نفسه من حافة الانهيار، إذا ما نفض الغبار عن الوعي الوطني وأفاق من سباته العميق، ليتحرك الجميع بنهج من المسؤولية الحقيقية قبل أن يتحوّل العطش إلى قدرٍ لا مفرّ منه.