عمو جوزف... ما قيل وما لم يُقل

نفتقدك في كل خطوة... ونحن على مشارف لبنان الجديد، نستذكرك. أمام لبنان الذي سينهض من تحت ركام النظام المتهاوي وتسلط السلطويين المنتفعين على حساب طوائفهم، نستذكرك.
صحيح أن الضيق على لبنان، الذي عمرك من عمره، اشتدّ بفعل خطفه من المحاور، والتنكيل به على يد الأجندات الاقليمية القريبة والبعيدة، لكن الأمل كبير بما أعده أصحاب ارادة التغيير.
عمو جوزف اشتقنا لحكمتك واستشرافك للمرحلة المقبلة من خلال ثوابت رسّختها على مر السنين ومن خلال ايمان بلبنان يزحزح الجبال. نتغذى من حصاد أيامك وهو أمانة عظيمة تدفعنا لتجديد الإيمان بأن لبنان سيولد من جديد كما كنت تقول، وأنه كبير برسالته التي لا بد أن تأتي برسل على مستوى الأمانة.
أذكر جيدًا آخر مرّة كنا فيها في مكتبك، بالأحرى على صومعتك، في الصيفي، حين وقفت ونظرت من الشباك المطل على ساحة الشهداء وكنا وقتذاك في عزّ الثورة في أواخر تشرين الأول، وقلت لي: "ما يجري ليس موجة تمر مرور الكرام، ما يحدث عظيم جدا...هذا الشعب لا يقبل العيش من دون كرامة وحرية".
نعم لا يمكن للبناني أن يعيش إلا في دولة الكرامة والحرية، لذلك انتفض المحامون وكثير من النقابات، لذلك انتفضت المرأة اللبنانية، لذلك قلب الطلاب الطاولة على رؤوس أحزاب السلطة، لذلك ينادي الأحرار بالحياد لضمان إعادة بناء لبنان الذي هدمه أركان المنظومة الحاكمة، إعادة بناء بنيانه الإقتصادي والإجتماعي والبيئي والصحي، إعادة بناء بنيانه الإنساني قبل كل شيء. بعد عام على رحيلك نسأل ما نفع لبنان من دون الرسالة التي من أجلها وجد؟ وهل نريده قطعة من اليابسة تأوي بشرا وكائنات أخرى أو نريده منارة لإنسان القرن الواحد والعشرين، حاضنة لاقتصاد المعرفة ومنطلقا لإنسان كريم في حقوقه مكرمًا في عطاءاته؟
نعرف أننا أمام خيار سياسي قبل أي خيار آخر، اقتصادي أو غيره. إما نريد هذه الرسالة وبالتالي نعيد للبنان دور رابط الأوصال بين الشرق والغرب، وبين المحاور المتناحرة، وإما نستمر في الإنزلاق نحو جهنم التخلف والفقر والاهتراء في الحجر والبشر. لا يصطلح فكران ولا يلتقي طريقان، طريق مرتزقة الأجندات الخارجية وطريق العزة الوطنية والسيادة الكاملة.
لاشك أنّ اللبنانيين أمام هذين الخيارين ومخطئ من يظن أن المشكل في لبنان هو مجرد خلل في مجلس إدارة النظام الحالي، وأن الإصلاحات الإدارية على أهميتها إن حصلت بإمكانها وحدها انتشال لبنان من قعر البئر التي رمى نفسه بها. هذا أشبه بالهذيان، لأن المعادلة واضحة "السكوت عن الفساد مقابل السكوت عن السلاح غير الشرعي"، لذلك نقول أن أي خيار اقتصادي اجتماعي لا بد أن يسبقه خيار سياسي أولا. فلا يمكن أن نحقق اقتصاد تايوان ونحن نلتزم بسياسة هانوي والعكس صحيح.
عمو جوزف، بعد عام على غيابك، طلاب لبنان يتجمعون ويعيدون تنظيم صفوفهم من أجل الدولة المدنية وعلمانية الإدارات والسياسات العامة. لقد قرّروا وضع خلافاتهم الضيقة والانصراف إلى ثورة على الذات وعلى المنظومة الحاكمة، لذلك الأمل كبير في القوى التغييرية، من طلاب وأصحاب مهن حرة ومناضلين أحرار لكي يُبصر الوطن الجديد النور من تحت رماد لبنان المخطوف والمنهوب والمحروق.
عمو جوزف في لقائنا الأخير قلت لي: "كم كان صعبًا وخطيرًا خيار المواجهة الشاملة مع المنظومة الحاكمة الذي مشى به رئيس الكتائب سامي الجميّل منذ سنين، وكم شكّك كثيرون بصوابية الرهان على الناس، إلا أن هذا الخيار اليوم هو ما يجعل ضميرنا مرتاحا، ويجعلنا فخورين بأن الكتائب في موقعها الطبيعي".
كم تمنيت أن تطل من نافذتك لترى الثوار يبلسمون جراحهم ويسندون ظهرهم إلى بيت الكتائب قبل العودة إلى ساحة المواجهات.

عمو جوزف، ايمانك بلبنان زرع فينا العناد بأننا سنسترجعه من يد المافيا والميليشيا في آن، وأن النور سيغلب الظلمة مهما ظَلَمَ ظَلامُها.