المصدر: النهار
الكاتب: سابين عويس
الأحد 19 تشرين الأول 2025 08:35:04
بالرغم من بدء عودة النشاط الاقتصادي، ولو ببطء وحذر، لم يستعد العمل المصرفي بعد عافيته، في ظل عدم دخول قانون الإصلاح المصرفي حيز التنفيذ، فيما عاودت مصارف نشاطها عبر تفعيل التسليف، ولكن على مستوى صغير يتعلق بقروض شخصية.
منذ اندلاع الأزمة المالية عام 2019، شهد لبنان توقفاً شبه تام لنشاط الإقراض المصرفي، بسبب انهيار الثقة وتدهور سعر الصرف وتضاؤل السيولة، والمخاطر على المصارف والمودعين. إلا أن الحديث بدأ يتصاعد أخيراً عن رغبة المصارف في استئناف نشاطها الإقراضي، مع شرط أساسي: وجود قانون يوفّر الحماية القانونية والتنظيمية لعملية التسليف، كي لا تُعاد الأخطاء السابقة.
وكان لبنان وضع على طاولته، في صيغ مختلفة، مشاريع ومقترحات قوانين تستهدف إصلاح النظام المصرفي، ومن ضمنها قانون "إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها" الذي أقر أخيراً، ومن أهم ما يتضمّنه آليات للتعامل مع المصارف المتعثّرة، وحماية الودائع، وحدود استخدام الأموال العامة في عمليات الإصلاح. أما قانون "معالجة الفجوة المالية" أو "استعادة الانتظام المالي واسترداد الودائع"، فهو بمثابة تكملة ضرورية للقانون السابق، حيث يُفترض أن يحدد كيفيّة توزيع الخسائر (الفجوة المالية) بين الدولة والبنك المركزي والمصارف والمودعين. ودون صدور هذا القانون المكمِّل، يبقى تنفيذ قانون إصلاح المصارف معلقاً، مما يؤدي إلى حالة من عدم اليقين التشريعي والتنفيذي.
وترى المصارف أنه من دون إطار قانوني واضح يُلزم فيه المقترض أن يسدّد القرض بالعملة التي أقرض بها (أو تحديد التزامات واضحة إذا تغيّرت)، مع ضمانات وكفالات واضحة، ومع التعامل مع مخاطر سعر الصرف، فإنها ستتجنب الدخول في عمليات إقراض قد توفر السيولة، لكنها تكلفها خسائر مادية وقانونية لاحقاً.
والواقع أن مشاريع القوانين المذكورة تتضمّن بنوداً لمعالجة هذا الأمر، ولكن ليس واضحاً بعد إن كانت تشمل نصوصاً تلزم المقترض العملة نفسها دوماً، أو ستُتركّ مسألة العملة والضمانات للمفاوضات بين المصرف والمستفيد، أو لتعاميم أو مراسيم لاحقة. أما المعوقات التي قد تمنع فعلياً استئناف الإقراض حتى مع وجود التشريع، فتكمن في تأخير إصدار القوانين المكملّة مثل قانون إصلاح المصارف، إذ لا يُفعل كل بنوده إلا بعد صدور قانون "الفجوة المالية" أو "استعادة الانتظام المالي واسترداد الودائع".
هذا الإطار القانوني المكمّل هو الذي يحدّد التزامات الأطراف وتوزيع الأعباء والمخاطر. وعدم وضوح النصوص القانونية، ومنها ما طُعن به أمام المجلس الدستوري، لأنها رُبطت بقوانين مستقبلية، أو لأنها غير واضحة في جوانب التعريفات أو التراتبية، يترك فراغًا قانونيًا يمكن استغلاله لجعل المصارف تتردد في الإقراض. يضاف إلى ذلك المخاوف من المخاطر المالية، والعملة، والتقلبات، وهي ما زالت قائمة، لأن المصارف إذا أقرضت بالدولار أو بعملة أجنبية، قد تفقد جراء أي تغيّر محتمل في سعر الصرف أو وضع قيود مصرفية أو اللجوء إلى إجراءات طارئة قد تُطبّق.
ولكن من دون ضمانات تشريعية قوّية وتحديد واضح للمخاطر، قد تعود المصارف إلى سياسة الحذر الشديد. وإذا نجح التشريع - أيّ قانون إصلاح المصارف مع قانون الفجوة المالية- في أن يكون مكتوباً بوضوح، شاملاً ومحميّاً من الطعون التشريعية أو الدستورية، فقد تفتح المصارف أبواب الإقراض تدريجاً، خصوصاً لقطاعات مُرضية من ناحية المخاطر مثل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتمويل العقارات أو السيارات بشرط ضمانات قوية، والقروض الشخصية بحدود تُراعي المخاطر التشغيلية والتقلبات. وهذا سيؤدي إلى انفراج في جزء من أزمة السيولة في الاقتصاد، وعودة ثقة بعض المودعين، وتحفيز النشاط الاقتصادي. أما إذا فشل التشريع في معالجة المعوقات الأساسية، أو ظل معلقاً أو مُجمَّداً، أو إذا تمّ تغييره بما يضعف الضمانات، فستبقى المصارف مترددة، وستبقى الأزمة المالية تنتشر في القطاعات التي لا تملك القدرة على فرض شروط صارمة أو تحمل مخاطرة عالية.
في هذا المناخ، ورغم تحفظ العدد الأكبر من المصارف عن التسليف في انتظار القوانين الحمائية، فإن عددا منها اختار المخاطرة وفتح باب التسليف لقروض صغيرة ومتوسطة، وإنما بكلفة عالية تصل فوائدها إلى ما بين 7و8 في المئة، وقد حمت هذا المجموعة مخاطرها بعقود مع العملاء تلزمهم السداد بعملة الاستدانة، أي الدولار، وقد شجعها على ذلك إعلان حاكم المصرف المركزي كريم سعيد قبل فترة التوجه إلى إقرار التشريعات التي تتيح عودة المصارف إلى الاضطلاع بدورها في التسليف، وذلك بعد إقرار القوانين المشار إليها.
وكان لافتاً تهافت العملاء على المصارف التي أعلنت عن خدماتها التسليفية رغم الشروط القاسية. وفي المعلومات أن هذه المصارف تعتمد على رساميلها الخاصة لتمويل التسليف، في ظل حظر المركزي عليها استعمال الودائع الدولارية الجديدة لديها. وفيما كان حجم التسليفات قبل الأزمة قد وصل إلى نحو ٣٥ مليار دولار، فإن القروض الحالية لا تتجاوز النصف مليار دولار، لكنها معبرة، إذ إنها تعني عودة وإن تدريجية وخجولة للثقة بالمصارف.
تتوزع اليوم القروض بين التجارية الهائلة لشركات، وأخرى شخصية، وأهمها قروض السيارات.
وتفرض المصارف المعنية شروطاً قاسية لحماية نفسها، منها الفائدة المرتفعة التي تصل إلى ٨ في المئة، أو فرض أن يكون السداد بالعملة نفسها، أو ألا يكون لدى المقترض حساب باللولار لتفادي السداد منه، كما حصل خلال الأزمة.