عون يفتح معركة "الحسم الاقتصادي"... بعد السلاح

لم يكن خطاب رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في مناسبة عيد الجيش مجرد مناسبة احتفالية تقليدية. من وزارة الدفاع، أطلّ الرجل بخطاب يمكن اعتباره بمثابة "إعلان نية" للحسم الشامل: حسم سياسي، حسم أمني، وحسم اقتصادي.

في لحظة محلية وإقليمية تتقاطع فيها النزاعات والمبادرات، قرّر عون أن يُخرج مشروع الدولة من الغموض إلى الوضوح، وأن يُسقط الأعذار القديمة لمشاريع متعثّرة، أبرزها بناء اقتصاد مستقر وسليم... فلم يكن غائبًا عن مضامين الخطاب، بل شكّل أحد محاوره الأساسية، ليس كملف تقني فحسب، بل كأداة لإعادة بناء الثقة بالدولة واستعادة سيادتها وفرض هيبتها في الداخل والخارج.

الرئيس أطلّ من منبر وزارة الدفاع ليطرح معادلة متكاملة: لا إصلاح اقتصاديًا بلا استقرار سياسي، ولا استقرار بلا حصرية سلاح، ولا سلاح شرعي إلّا سلاح الجيش... وتلك كانت روحية الخطاب وعصبه.

لعلّ أبرز ما ورد في الشق الاقتصادي من الخطاب كان الحديث عن مقترح رسمي، بالتنسيق مع الحكومة ومجلس النواب، لتأمين تمويل خارجي بقيمة مليار دولار سنويًا، ولمدة عشر سنوات، يُخصّص لدعم قدرات الجيش والقوى الأمنية. هذا التمويل، كما عُرض، ليس فقط دعمًا عسكريًا، بل مقاربة اقتصادية للاستقرار، لأنّ دولة بلا أمن لا تستطيع اجتذاب استثمارات أو إطلاق عجلة النمو.

الشقّ الاقتصادي لم يتوقف عند دعم القوى العسكرية، بل تضمّن بنودًا واضحة في مشروع التفاهم مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، من بينها الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للمانحين في الخريف المقبل، من أجل إعادة إعمار المناطق المتضرّرة. وقد أرفق الرئيس هذا البند برؤية تتعدى الإعمار الفيزيائي للمتضررين، لتطول إعادة بناء البنى التحتية وإحياء المؤسسات والخدمات العامة، كمدخل أساسي إلى النهوض العام.

في ملف الإصلاح، لم يغفل الخطاب الحديث عن محورية "استعادة الثقة بالقضاء"، كشرط أساسي لجذب الرساميل الأجنبية والمستثمرين. ومن هذا المنطلق، تحدث الرئيس عن إحالة مشروع تعزيز استقلالية السلطة القضائية إلى المجلس النيابي، كما أكّد أنّ القضاء سيكون مطلق اليدين في ملاحقة الفساد وتفعيل مبدأ المساءلة، بما في ذلك تحريك ملف تفجير مرفأ بيروت وملاحقة المتورّطين بلا حصانات.

أمّا في الشأن المالي، فشدّد على أولوية حماية حقوق المودعين، معتبرًا أنّ الملف من أعقد وأثقل الملفات بسبب التراكمات السابقة. الحكومة، بحسب الرئيس، أحالت مشاريع قوانين عدة لمعالجة هذه الأزمة، أبرزها مشروع قانون هيكلة المصارف، ورفع السرية المصرفية، واستكمال التفاوض مع صندوق النقد الدولي. وقد أُرفقت هذه المساعي بخطوات إجرائية، منها التعيينات في مصرف لبنان وهيئة الرقابة على المصارف، وقريبًا في هيئة الأسواق المالية، كمقدّمة لضبط السياسة النقدية وإنعاش القطاع المصرفي.

في جانب التنمية والإدارة، كشف الرئيس عن خطة واضحة لإعادة هيكلة الإدارة العامة، من خلال تعيينات طال انتظارها منذ عام 2002، تشمل الهيئات الناظمة في قطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني. وأرفق ذلك بجهد حكومي نحو الرقمنة وتوحيد المعاملات الإدارية، من خلال اعتماد "الرقم الموحّد"، كوسيلة لمكافحة الفساد وتقليص الهدر وتسريع الخدمات.

وفي سياق متصل، أعاد الرئيس التأكيد على أهمية إقرار قانون اللامركزية الإدارية كأحد مفاتيح إنماء المناطق، مشيرًا إلى أن الانتخابات البلدية والاختيارية جرت في مناخ من الشفافية، وأن تفعيل العمل البلدي هو أساس التوازن التنموي، خصوصًا في ظلّ التفاوت الحاد بين المناطق.

لم يغفل الخطاب أيضًا الربط بين الاقتصاد والسيادة، حيث طرح الرئيس مسألة التهريب والمخدّرات ضمن البنود الاقتصادية - الأمنية، مشددًا على ضرورة دعم الزراعات والصناعات البديلة. كذلك شدّد على ضرورة ترسيم الحدود مع سوريا، ليس فقط كقضية سياسية، بل كخطوة ضرورية لضبط الاقتصاد غير الشرعي، والتأسيس لعلاقات تجارية منظمة بين البلدين.

اللافت أنّ الخطاب لم يتعامل مع الاقتصاد بوصفه ملفًا منفصلًا، بل كنتاج لقرارات سيادية كبرى تتعلّق بحصرية السلاح ووحدة الدولة. وهو بذلك قدّم رؤية مفادها أنّ استعادة الدولة تبدأ من السياسة لكنّها لا تكتمل إلّا بالاقتصاد. فالاستثمار في الجيش والأمن، وتحرير القرار الاقتصادي من قبضة الفساد والمحاصصة، هما المدخلان الوحيدان لضمان استدامة أي مسار إصلاحي، خصوصًا إذا ما اقترنا بدعم دولي حقيقي لمشروع نهوض وطني.

فهل تنجح هذه الرؤية؟ الجواب مرهون بإرادة الطبقة السياسية وقدرتها، لا على إنتاج قوانين فحسب، بل على الالتزام بما ورد في خطاب وزارة الدفاع الذي بدا أقرب إلى "بيان رئاسي" جديد، يرسم خريطة طريق اقتصادية، لا تقلّ جرأة عن مضمونه السياديّ.