غياب الشفافية في توزيع مساعدات الحرب: من يتحمل المسؤولية؟

بعد أشهر على انتهاء الحرب في لبنان وسقوط آلاف الضحايا، لا تزال أسئلة كثيرة تُطرح حول إدارة هذه الحرب من قبل الدولة اللبنانية، خصوصًا لجهة المساعدات وطريقة توزيعها. فالحرب التي اشتدت في أيلول  2024، سبقها "بروفا" لسنة كاملة مع بداية الحرب في جنوب لبنان في 8 تشرين الأول 2023، وكان يُفترض أن تكون هذه المدة الطويلة كافية لتجهيز ما تيسر من مساعدات للنازحين. فما هي التحديات التي واجهتها عملية توزيع المساعدات الدولية التي وصلت الى لبنان، وماذا عن الآلية والشفافية؟

تروي فاتن الشاطر، من منطقة حي السلم، قصة نزوحها المأساوي مع أطفالها الثلاثة ووالدتها المقعدة، بعد أن قضوا يومين في الشارع قبل أن يتوجهوا إلى عكار. خرجت فاتن من منزلها تحت تهديد القصف الإسرائيلي، بلا أموال أو هوية، لتبدأ رحلة معاناة جديدة.

عند وصولها إلى قرقف العكارية، واجهت صعوبة كبيرة في تحصيل أيّة مساعدات، وكانت المدرسة التي لجأت إليها غير مجهزة. بعد فترة، بدأت المساعدات تصل، لكن معاناة آلاف النازحين الآخرين، خصوصًا في المناطق البعيدة عن بيروت، تبرز نقص الدعم وسوء توزيع المساعدات، مما يعكس حالة الارتباك والعجز لدى الدولة في مواجهة هذا الوضع الطارئ.

 

نقص في الإمكانيات ؟!

أسئلة كثيرة حول طريقة توزيع المساعدات والآلية المتبعة للتوزيع، حاولنا توجيهها للجهات المعنية في الدولة، لكن من دون أن يُدلوا بأي أجوبة، الأمر الذي يطرح التساؤلات، خصوصًا عند تقديم الصحافي طلب رسمي للحصول على معلومات حول طريقة توزيع هذه المساعدات، فتكون الحجة أن جميع الأجوبة موجودة على مواقع الوزارات المعنية، والتي بعضها مُعطّل ولا يُمكن تتبع أي معلومة عبرها.

صعوبات وتحديات عديدة واجهت الدولة اللبنانية تحدث عنها رئيس لجنة الطوارئ الوزير السابق ناصر ياسين خلال الحرب إذ قال في حديث عبر قناة الـmtv بأن المساعدات التي وصلت للبنان مقارنة مع عدد النازحين لا تُعتبر كافية، حيث كان يتواجد 45 ألف عائلة في مراكز الايواء، إضافة إلى 174 ألف عائلة في المنازل. وأوضح ياسين أن تركيز المساعدات كانت بالمرحلة الأولى على مراكز الإيواء نظرًا لعدم امتلاكهم لأبسط مقومات الحياة، وما وصل من مساعدات خارجية لا يصل إلى 20 بالمئة من حاجات النازحين.

وتحدث ياسين أن العمل كان قائم مع المحافظين واللجان داخل المناطق لتسجيل الأسماء في المنازل لتقديم المساعدات الغذائية وما يحتاجونه إضافة لتحديث البيانات وتوفر الموارد أكانت المالية أو المساعدات الغذائية، ونظرًا لغياب الموارد فإن الاعتماد كان على المساعدات الخارجية والمنظمات الدولية.

أما عن التحديات الأساسية التي واجهت عملية التوزيع كانت بحسب ياسين عدم قدرة البلديات خاصة في المدن الكبرى على إحصاء عدد النازحين في المنازل، لتقديم المساعدات لهم خصوصًا للعائلات الأكثر فقرًا، وهو ما تطلب تعاون وزارة الشؤون للتدقيق بالاحتياجات.

يحاول مستشار رئيس لجنة الطوارئ، جواد سبيتي، وبصفته التطوعية مع الدولة اللبنانية، الإجابة على أسئلة كثيرة طُرحت من قبل الأهالي والجهات المراقبة حول النواقص في ادارة المساعدات. ويشرح سبيتي أن لبنان لم يكن مجهزًا لاستقبال أكثر من مليون نازح دفعة واحدة. فالتطمينات الدولية كانت بأن الحرب لن تتوسع أكثر من المناطق الحدودية، وفي الشهر الأول كان الاعتماد على المساعدات الداخلية فقط، بينما حجم المساعدات التي وصلت للبنان لم يكن كافيًا نظرًا لحجم النازحين في كافة المناطق اللبنانية.

يدافع سبيتي عن عمل لجنة الطوارئ، حيث كانت طريقة المساعدات تتم عبر المحافظين والمخاتير واللجان المعنية، التي كانت تدخل المساعدات على موقع تتبع المساعدات الذي أُنشئ لهذا الغرض.ويكشف أنه لدى وصول المساعدات من الدول المانحة، لم يكن هناك أي مخازن لتوضيبها، فمعظم المخازن تم تدميرها خلال انفجار مرفأ بيروت، ولم تقم الدولة بإعادة تجهيزها، بل استعانت بمستودعات Seaside Arena على الواجهة البحرية لبيروت. وبعد توضيبها كانت هناك مشكلة أخرى في طريقة نقل تلك المساعدات، فلا شركات ولا سيارات مجهزة لنقلها، قبل أن يتم الاستعانة بالصليب الأحمر الذي قام بمناقصة لنقل المساعدات للمناطق.

كما كان هناك باخرة وصلت من الإمارات إلى لبنان بعد انتهاء الحرب، ولكن لم يكن هناك أي مكان لتفريغها، وقد تم تخزين هذه المساعدات وسيتم توزيعها للمناطق الأمامية في الجنوب.

 

هيئات متعددة وشفافية ناقصة

في ظل التخبط الذي حصل خلال الحرب، برزت لجان عديدة وصعوبات لدى الدولة اللبنانية في إدارة الملف، فمن ضمن اللجان التي تابعت قضية المساعدات وعمليات الاغاثة كانت "اللجنة الوطنية لإدارة الكوارث والأزمات"، لجنة الطوارئ الوزارية، وحدة إدارة الكوارث، والمجلس الوطني للبحوث العلمية الذي يعتبر شريك وحدة الكوارث، والهيئة العليا للإغاثة، إضافة إلى وزارة الشؤون الاجتماعية التي كانت مهمتها متابعة الحالات الاجتماعية والفقر إضافة إلى حاجات أصحاب الحالات الخاصة، كذلك يوجد مجلس الجنوب الذي يُفترض منه متابعة حاجات أبناء المناطق الجنوبية.

يعيد هذا التعدد في اللجان التي تدير عمليات الاغاثة (ولو بدرجات متفاوتة) والذي رأيناه في فترة الحرب الأخيرة الحديث القديم عن ضرورة توحيد تلك اللجان بلجنة واحدة تصلها المساعدات، وتعمل تحت امرتها كافة اللجان، إضافة إلى موقع إلكتروني موحد يمكن من خلاله مراقبة طريقة التوزيع والجهة المانحة والمستفيدة. 

تلك اللجان وتفرعها بات يدفع ببعض الدول المانحة "ولتجنب أي تلاعب بالتوزيع"، نحو تشكيل فرق خاصة ومتطوعين بعيدًا عن اللجان الرسمية لتقدم عبرها المساعدات الفورية للنازحين في المناطق بالتعاون مع المخاتير.

ورغم أن اقتراح قانون إنشاء هيئة لإدارة الكوارث، يعود للنائب الراحل بيار الجميل، وطوره النائب السابق محمد قباني، إلا أن اقتراح القانون لم يبصر النور وبقي في اللجان النيابية.

وهنا يطرح سؤال حول عدم التصويت على القانون ولمصلحة من، مع العلم أن فور إصدار القانون تُعتبر هيئة إدارة الكوارث الهيئة الرسمية الوحيدة المعتمدة لكل أعمال الكوارث والإنقاذ، وتُلغى سائر اللجان والهيئات والمديريات التي أنشئت في السابق لهذا الهدف. 

لا يخفي سبيتي أن تعدد اللجان التي يمكنها الحصول على مساعدات يفتح المجال أمام عمليات التلاعب، ولكن في الوقت نفسه، يرى أن عمل لجنة الطوارئ كان ممتازاً، وبشهادة المراقبين حسب قوله، إلا أن العمل يجب أن يكون تحت إشراف لجنة واحدة تجمع كافة اللجان والهيئات ما يُمكّن مراقبة عملها ومتابعة توزيع المساعدات بطريقة أكثر فعالية، وتكون مسؤولة أمام الرأي العام والجهات المانحة والشعب في الوقت نفسه. (لمعرفة كيفية توزيع المساعدات من قبل لجنة إدارة الطوارئ، يمكن (الدخول على الرابط التالي.)

بخلاف لجنة الطوارئ التي كانت مسؤولة عن توزيع المساعدات لمراكز الإيواء والنزوح، فإن موقع الهيئة العليا للإغاثة شهد عدة ثغرات فلا يمكنك تتبع توزيع المساعدات فيه. فعلى سبيل المثال، كان يتم إدخال أرقام البطانيات المقدمة مثلاً من دولة مانحة، ولكن لا يمكن استخراج المعلومات منها، ولا يمكن مراقبة توزيعها، فهي مجرد صورة أُدخلت للموقع كما يظهر في الموقع هنا. وبالاطلاع السريع على الموقع يمكنك معرفة مجموع المساعدات الموزعة، ولكن هل فعلاً تم توزيعها بشفافية؟ ودون محسوبيات؟ وهل الأرقام دقيقة؟ من دقق بها؟ هل من تحقق من المعلومات الموضوعة؟ أم هي فقط معلومات وتم وضعها على الموقع؟

بدورها وزارة الصحة العامة قد نشرت جدولاً لتوزيع المساعدات على المستشفيات والجمعيات الإسعافية، ولكن بدون أي تفصيل سوى الجهة المانحة وطبيعة الدعم، أكانت أدوية أو مستلزمات طبية وما شابه.

وبمقارنة بسيطة بين الجهات التي قامت بتوزيع المساعدات، والروابط المنشورة فإن مثلاً وزارة الصحة العامة قامت بنشر المساعدات ولكن عبر صفحات مطبوعة لا يمكن مراقبتها أو تتبعها  أو معرفة تفصيلها، بينما اللجنة الوزارية قامت بالتفصيل أكثر وبطريقة أفضل من غيرها من اللجان الأخرى، فقد قامت بنشر عدد البطانيات التي وصلتها من كل دولة مانحة إضافة إلى المواد الغذائية والجهة المستلمة.

أما مجلس الجنوب فقام بنشر جدول مطلع العام 2025 يتضمن الجهات المانحة ونوع الهبة ووزنها وطريقة وصولها للبنان، يظهر الجدول أن نصف المساعدات لم يتم توزيعها وموجودة في المستودعات. مع العلم بعدم وجود أي تحديث للصفحة.


من جانبه، يرى المدير التنفيذي في جمعية الشفافية الدولية - لبنان، جوليان كورسون، أنه بالمقارنة مع الكوارث التي حلت بلبنان في السنوات السابقة، هناك تحسن في طريقة توزيع المساعدات. فمن الناحية الإيجابية، كان هناك منصة ولجنة الطوارئ تنسق الموضوع مع الجهات المانحة، ولكن هذه المنصة، على حسناتها، لم تكن مركزية، ومع تعدد الجهات التي استقبلت المساعدات كان هناك ضياع في طريقة التوزيع والشفافية في التعامل مع تلك المساعدات. وكمواطن أو إعلامي، لا يمكنك الدخول لموقع محدد للحصول على المعلومات، وعليك الدخول لعدة مواقع، وهذا لا يعتبر ممارسة جيدة على صعيد الشفافية. بينما التحدي الثاني كان في تتبع هذه المساعدات، كنا نعلم مثلاً أن دولة ما أرسلت مساعدات، ونعلم الجهة المسؤولة عن توزيعها، ولكن لا يمكن تتبعها لأنها غير مجزأة.

يعتبر كورسون أن هناك نوعًا من الشفافية عند الهيئة العليا للإغاثة، ولكن كان الأفضل تقسيم المساعدات وعدم وضع صور على الموقع، حيث لا يمكن للمواطن أو أي شخص استخدام المعلومات. أما من جهة وزارة الصحة، فالمعلومات كانت تتأخر في تحديثها. ويضيف: "الشفافية لا تكون في نشر جزء من المعلومات فقط، إنما بتتبع المعلومة، إذ يجب أن تكون عبر موقع واضح يسهل الوصول للمعلومة فيه، ولا يتطلب إجراء اتصالات مع الجهات الحكومية للحصول على المعلومات".

وحول توزيع المساعدات والرقابة، اعتبر كورسون أن الرقابة كانت خجولة، وهو ما يُعلي فرص الفساد. فهناك مثلاً مساعدات وصلت بعد انتهاء الحرب، لم يخرج أحد من الدولة ليقول لنا ما مصيرها، وهل فعلاً ستوزع للمناطق الحدودية وما هي الآلية التي ستوزع بها تلك المساعدات؟ وختم حديثه بالقول: كان لدى الدولة اللبنانية سنة كاملة لتتحضر لهذه الحرب، خصوصًا أنها استفادت منذ 20 سنة من الهبات الدولية والمساعدات لتجنب أي كارثة قد تحدث، سواءً في الوقت الحاضر أو المستقبل، ويجب أن يتم استخلاص العبر والدروس من هذه الحرب والعمل على لجنة مركزية لإدارة المساعدات والتنسيق بين الجهات الفاعلة على الأرض لتجنب أي مشكلة مستقبلية.