المصدر: المدن
الكاتب: محمد زهوة
الأحد 14 آب 2022 12:55:45
يعمد عدد من السائقين العموميين إلى تضييق الخناق على رقاب المواطنين بتعرفات خيالية تتبدّل بين يوم وآخر، تثقل كاهلهم، وتجعلهم عاجزين عن الذهاب إلى أعمالهم ووظائفهم، راضخين في النهاية إلى "حكم القوي في الشارع"، بينما تغيب الدولة التي يفترض أن تقوم بدورها الكامن في إعادة تنظيم قطاع النقل وضبط آلية التسعير، بشكل عادل لكل الأطراف.
السرفيس بـ200 ألف ليرة
لم تتوقع الطالبة الجامعية سارة.غ أن يطلب منها سائق سيارة الأجرة 250 ألف ليرة كي يوصلها من كليّتها على طريق المطار إلى منزلها في منطقة الشيّاح متذرّعًا بارتفاع أسعار المحروقات وتسعير قطع الغيار بالدولار النقدي، علمًا أن المسافة بين المنطقتين لا تحتاج إلى أكثر من 10 دقائق قيادة للسيارة، كما لا يمكنه استغلال الناس تحت حجّة الوضع الاقتصادي الذي يخنقنا جميعًا.
تشير سارة لـ"المدن" إلى أنها أبت إلا أن تنتفض في وجه السائق رافضة الخضوع لشروطه في التعرفة التي حدّدها، عارضة عليه مئة ألف ليرة فقط لا غير وهي متيقّنة أن تسعيرة السرفيس بين المنطقتين المذكورتين لا تستأهل أكثر من 40 ألف ليرة، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ، حسب سارة، على طمع الكثير من السائقين وسعيهم إلى تحقيق مكاسب كبيرة من عمق الفوضى التي تطغى على القطاع، وفي ظل التفلّت الأمني وانعدام الرقابة والمحاسبة.
وسيم.ك العامل في مؤسسة للأدوات الكهربائية في منطقة الجناح، يعرب عن امتعاضه من تحكّم سائقي الأجرة بحياة الناس، معتبرًا أن "المفاوضات التي أجريها بين حوالى 10 سيارات صباحًا كي أصل إلى المؤسسة تؤخرني غالبًا نصف ساعة عن وقت دوامي، فالسائق الأول يطلب 130 ألف ليرة والثاني 120 ألفاً والثالث 150 ألفاً. ويتكرر السيناريو نفسه يوميًّا حتى أجد خلاصي مع السائق الأقل تعرفة، فأدفع من 50 إلى 70 ألف ليرة ذهابًا، والتعرفة نفسها إيابًا. أي أنفق ما يعادل الثلاثة ملايين ليرة فقط مصاريف المواصلات، في حين لا يتعدّى راتبي الشهري الـ5 ملايين ليرة.
سبب تفاوت التسعيرة
يعزو سائق الأجرة ربيع.ف سبب تفاوت التسعيرة بين سائق وآخر إلى الأوضاع الاقتصادية التي تخنقهم جميعهم، فيقول إن "الظروف التي نعيشها استثنائية وغير عاديّة، ولا يجوز مقارنتها بأي ظرف مضى، أو ربطه بالحلال والحرام أو العدل والظلم أو إطلاق الأحكام بشكل عبثي على السائقين العموميين الذين يذوقون الأمرّين جراء غلاء المعيشة وارتفاع سعر صرف الدولار".
يضيف ربيع: "لا قدرة لأي سائق على تثبيت تسعيرته والعمل على أساسها أو الاتفاق على تسعيرة واحدة كل يوم، فهنالك السائق الذي يعاني من أعطال في سيارته تكبّده 300 دولار مثلًا، ما يضطره إلى طلب تعرفة تفوق غيره من أجل صيانتها، وهنا تعود للزبون حريّة الموافقة أو الاعتذار ليجد الأرخص، بينما يعاني سائق آخر من أعطال تكلّفه أقل من 100 دولار، فيقوم برفع التسعيرة لكن تبقى أقل من السائق الأول. وكل ذلك ليس طمعًا أو جشعًا أو نصبًا كما يتم وصفنا، إنما لضمان استمرارية العمل في ظل ما يعصف بقطاع النقل من تحديات قد تودي بنا وبعائلاتنا إلى الجوع".
من جهته، يقرّ حسان.ل، صاحب سيارة للأجرة ويعمل في بيروت وضواحيها، أن "التعرفات التي يتم التداول بها وتصل إلى 250 ألفاً و300 ألف للسرفيس الواحد أحيانًا ليست سوى عملية نصب واحتيال على الزبون، متحدّثًا بغضب وانزعاج عن بضعة سائقين يستغلّون الأزمة ويرقصون على فقر ووجع الناس، فيشوّهون صورة جميع السائقين الذين يعملون على باب الله بتعرفة تقسم معاناة الأزمة بين الطرفين، فلا الأول يشعر بالخسارة ولا الثاني يرى نفسه مغبونًا"، مشيرًا إلى أن "التسعيرة العادلة اليوم للزبون والسائق على حدٍّ سواء لا تتعدى الـ50 ألف ليرة".
طليس يرميها على الحكومة
"النقابات لم تعد مسؤولة عن فوضى تعرفة سيارات الأجرة، إنما الأمر متعلق بالتعرفة التي يجب أن تصدرها وزارة الأشغال العامة والنقل"، هذا ما قاله رئيس اتحادات النقل البري بسام طليس في حديثه لـ"المدن"، لفت لافتًا إلى أن "الوزارة لا يمكنها تحقيق ذلك في ظل تبدّل أسعار المحروقات بين يوم وآخر، كاشفًا عن اتصال جرى بينه وبين وزير الأشغال العامة والنقل في حكومة تصريف الأعمال علي حميّة، حيث ردّ الأخير على طلب طليس إيجاد حلّ لمعضلة السرفيس قائلًا: "لا حل لدي سوى بإصدار تسعيرة يوميّة، وهذا غير متاح في الوقت الحالي".
وأشار طليس إلى أن الحل الوحيد يكمن في تحرّك الدولة. فالحكومة مثلًا لم تعطِ رأيها بهذا الموضوع ولم تبح بما تريد فعله، وسط ظلم لاحق بالسائق والمواطن على حد سواء، فلا الأول يستطيع العمل بتسعيرة منخفضة أو تحديد تسعيرة ثابتة كي ينصف الناس ولا يُتّهم بالنصب والاحتيال، ولا المواطن يستطيع تكبّد التسعيرة المرتفعة التي تتبدّل بين يوم وآخر، الأمر الذي يسبّب نزاعات بينهما في غالب الأحيان، معتبرًا أنه بمجرد إقرار بدل النقل للموظفين بشكل رسمي يراعي غلاء المعيشة وسعر صرف الدولار المتغيّر، يصبح من السهل إقرار تعرفة رسميّة لسيارات الأجرة بدلًا من الفوضى التي نعيشها.
وتابع: "سبق أن قدّمت لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي خطّة دعم للسائقين العموميين تحدّ كثيرًا من التلاعب والفوضى بالتسعيرة، وظلّت الأمور إيجابية إلى مرحلة معينة، حتى أصبحت اليوم في طيّ النسيان، مؤكدًا أنه لو أقرّت الخطة التي تأخذ بالاعتبار وضع كل زبون ومعدّل راتبه ومستوى عمله على حدة في الفترة السابقة، لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، حيث أصبحت الأمور خارجة عن السيطرة بالنسبة إلينا".
حميّة عاجز عن الحل
مصدر مسؤول في وزارة الأشغال العامة والنقل، نقل عن الوزير علي حمية قوله إن تسعيرة السرفيس لا يمكن ضبطها في ظل الظروف الحالية، فسعر صرف الدولار يتبدّل بين يوم وآخر، ما يجعل إقرار تعرفة رسمية أمر مستحيل"، مؤكدًا أنه "بمجرد الوصول إلى حل لسعر صرف الدولار يصبح بإمكاننا تثبيت التسعيرة وتحديدها وفق أسس علميّة ومنطقية ومنصفة للجميع"، معتبرًا أنه حتى لو حدّدنا التعرفة، فإن أحدًا لن يلتزم بها، في وقت ترتفع أسعار قطع الغيار وتعبئة الوقود بشكل خيالي. وهنا نعود إلى السبب نفسه أي الفوضى في التبدّل الدوري لسعر صرف الدولار في السوق السوداء".
يرى المصدر عبر "المدن"، أن "حل أزمة السرفيس معدوم بالنسبة إلى الوزير حمية. لذلك نحاول الابتعاد عن هذا الملف وعدم التداول به أكثر"، لافتًا إلى أن "أقصى ما يمكن فعله لحل الأزمة لن يكون من قبلنا، وهو الاتفاق الودّي بين السائقين والزبائن على تسعيرة معقولة بعيدة عن الجشع، من دون إحداث إشكالات ونزاعات بين الطرفين. وذلك حتى إشعار آخر".
وإذ لمّح إلى أن وضع الباصات الفرنسية وتلك الوطنية التي تم إصلاحها، على خطوط السير في كافة المناطق، سيشكّل بداية الحلّ لفوضى قطاع النقل في لبنان، ضمن الخطّة التي تضعها الوزارة لدمج القطاعين العام والخاص عبر تشغيلهما بإطار قانوني يرعى العلاقة بينهما، تحت إشراف وزارة الأشغال العامة والنقل، كان لا بدّ من معرفة مصيرها في هذه المرحلة الأكثر إلحاحًا، فردّ المصدر المقرّب من حميّة بضبابية تامّة: "المشروع ما زال سارياً والوزير يقوم باجتماعات جمّة لتفعيل الباصات في أسرع وقت ممكن".
الوجه الآخر للفوضى
وجه آخر لفوضى قطاع النقل والسرفيس يكمن في أساليب العمل غير الشرعية والقانونية التي يعتمدها العديد من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين على كافة الأراضي اللبنانية، حيث يقوم البعض بوضع ألواح عمومية مزوّرة على سيارات غير مستوفية لشروط هيئة إدارة السير والآليات والمركبات، ما يسهّل عليه المضاربة في التسعيرة لاستقطاب العدد الأكبر من الزبائن الذين يبحثون عن التعرفة الأرخص.
إزاء تلك الظاهرة، يخبرنا أبو معين وهو أحد السائقين العموميين الشرعيين أن "السائق الذي يعمل بطرق ملتوية لا يتكبّد سوى مصاريف البنزين، إذ أنه لا يقوم بمعاينة سيارته ميكانيكيًّا ودفع رسومها بشكل دوري، ولم يتكبّد أي فلس ثمن اللوحة العمومية التي تبلغ اليوم أكثر من مئة ألف دولار، أو حتى دفع إيجارها اليومي كما يفعل العديد من السائقين، والتي تعادل في أكثر الأحيان حوالى 70 في المئة من المدخول اليومي، مؤكدًا أن كل هذا يمكّنه من تخفيض التعرفة والمضاربة بها على باقي السائقين الشرعيين"، ومشيرًا إلى أن "هذه الظاهرة ليست جديدة العهد، إنما على مدى ثلاثة عقود من الزمن والطرقات اللبنانية تعجّ بالسيارات العمومية غير الشرعية".