المصدر: النهار
الكاتب: الدكتور جورج يزبك
الاثنين 18 آب 2025 12:16:04
كتب المحامي جورج يزبك في النهار
حاولت صدقاً البحث عن سبب تخفيفي لـ"حزب الله" سواء من خلال الميثاقية أو التوافقية، وراجعت كل النصوص الدستورية وشبه الدستورية، القانونية والعرفية، فلم أعثر إلا على أسباب مشدّدة.
راجعت مفهوم الميثاق الوطني، موطن الميثاقية التاريخية غير المكتوبة بامتياز، وراجعت الدستور اللبناني مادة مادة، وفقرة فقرة، وراجعت اتفاق الطائف والتعديلات الدستورية التي أتى بها، فلم أعثر في أي منها على عذر محلّ أو على سبب معقول في مسألة السلاح، وحمايته بالميثاقية بعدما منعت الظروف العسكرية والدولية الحزب من حماية سلاحه بسلاحه.
فميثاق 1943 لم يؤسس لميثاقية مذهبية، بل كانت ميثاقية مسيحية-إسلامية لحفظ وحدة الشعب والبلاد تحت سقف الدستور، لا فوق هذا السقف أو خارجه أو ضده. وبالتالي فان أول شرط لإعمال الميثاقية هو أن يكون الأمر الذي يستدعي شفاعة الميثاقية، موائماً للنظام العام لا منتهكاً له، ومنبثقاً من الدستور والقانون، لا مخالفاً لهما، ومتصفاً بالشرعية لا خارجاً عليها، وصوناً للمصلحة العامة لا تعطيلاً لها. وهذا ما تُرجم صراحة في دستور 1926 الذي نصّ في إحدى مواده على أنه "بصورة موقتة والتماساً للعدل والوفاق، تُمثّل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة"، مع خط أحمر عريض تحت الإضرار بمصلحة الدولة. فإذا كان التمثيل السياسي المتوازن شرطُه عدم الإضرار بمصلحة الدولة، فكيف الأمر بتسليح جماعة واحدة على حساب سائر الجماعات وعلى حساب الدولة وقواها المسلحة؟
واتفاق الطائف الذي أرسى الفقرة (ي) في مقدمة الدستور، كرّس مفهوم الميثاقية بالشكل الذي أوردناه، فالعيش المشترك لا يتأمن إلا بحماية الدولة، وكل سلاح خارج الدولة، ومهما كان هدفه ووجهته، يهدد العيش الواحد بين اللبنانيين، وبالتالي لا شرعية لهذا السلاح لأنه يناقض ميثاق العيش المشترك بين اللبنانيين. هذا في الدستور، أما في قانون العقوبات فحدّث أيضاً ولا حرج.
بعد المرور عجالة على البعد التاريخي-الدستوري، يصحّ القول إن مفهوم الميثاقية يعني إتاحة الفرصة لجميع مكونات البلاد في أن تشارك في سلطة اتخاذ القرار. فهي وجدت لتأمين الحضور لا بقصد التغّيب ولا أقول التغييب، ولتعزيز المشاركة لا لافتعال الانسحاب. فلو تألفت حكومة بإقصاء أحد المكونات الطائفية عنها، لكانت الحكومة غير ميثاقية، أما في ما لو رفض أي مكوّن يمثّل طائفته، وفي حالتنا الثنائي، أن يشارك في الحكومة، فتبقى الحكومة ميثاقية بمشاركة أفرقاء شيعة آخرين ولو أقل تمثيلاً أو حتى من دون تمثيل. ولو كانت حكومة ميثاقية وقرر فريق طائفي أن يستقيل منها، أو أن ينسحب انتقائياً من جلسة ما، فلا تصبح الميثاقية مفقودة لعلّة افتعال ظروفها إرادياً وعن سابق تصور وتصميم. وهذه الميثاقية التي يراد منها التعطيل، قد ألغتها المادة 65 من الدستور بنصها صراحة على اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء بالتوافق وإلا بالتصويت، ولو شاء المشرّع إعمال "الميثاقية السلبية" لكان نصّ صراحة على وجوب توافرها إلى جانب التصويت بأكثرية الثلثين في القضايا الأساسية.
إذاً، يحتكمون إلى الميثاقية لتبرير ما ليس بميثاقي. فهل سلاح "حزب الله" كان تكوينه ميثاقياً، وتشغيله ميثاقياً، ليكون تلفه أو تسليمه أو نزعه أو بيعه أو إعادة تسليمه إلى بلاد المنشأ، ميثاقياً؟ ثم أية ميثاقية مطلوبة لاستعادة السيادة من اللاسيادة، والشرعية من اللاشرعية، إنفاذاً للفقرتين (أ) و (د) من مقدمة الدستور والمادة أ منه "لبنان وطن سيد حر مستقل، والشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية"؛ وأية ميثاقية لتطبيق المساواة عملاً بالفقرة (ج) والمادتين7 و 8 من الدستور "المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، دون تمايز أو تفضيل"؛ وأية ميثاقية إزاء نص الدستور على "أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك" عملاً بالفقرة (ي) من مقدمة الدستور، وأية ميثاقية إزاء الموجب الأعلى الملقى على رئيس الجمهورية كرمز لوحدة الوطن، بالسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه (المادة 49)، وإزاء قَسَمِه ( المادة 50). فالسلاح يهدّد الوحدة والاستقلال، ويقسّم الأرض بين جنوب الليطاني وشماله، وبين الضاحية وبيروت، وبين بعض البقاع وبعضه الآخر ، بل بين سطح الأرض وباطنها (الأنفاق)، وبين المطار الدولي ومطار "حزب الله" داخل مطار رفيق الحريري، وبين مرفأ بيروت والعنبر رقم 12، ويقسّم الشعب بين مواطن أعزل ومواطن مسلّح، بين جماعة تبغي حمايتها من الدولة وجماعة يحميها الحزب، ويقسّم المال بين مصرف لبنان والقرض الحسن، ويقسّم السياسة الخارجية بين الانفتاح الرسمي في علاقات لبنان وتوازنها، وبين التزمت الحزبي وإخراج لبنان من مداه العربي والغربي.
فالسلاح والحال هذه، يكون مقسِّماً (بكسر السين) ومكسِّراً للعناصر الأساسية في تكوين الدول. ويضاف في حالة لبنان أن السلاح يقسّم الطوائف بين طائفة واحدة مسلحة و 17 طائفة أخرى مدنية بالكامل، فأين الميثاقية في هذه الحالة؟
ولا يُردّ على ذلك بأن البيانات الوزارية لحكومات الرؤساء رفيق الحريري ونجيب ميقاتي وسعد الحريري وتمام سلام شرعنت المقاومة، فالبيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام ألغى كل ما سبق.
وإذا لم يفعل رئيس الجمهورية لاسترداد الوضع وفق منطوق الدستور، فهناك تبعة عليه لخرقه الدستور حال قيامه بوظيفته (المادة 60).
الأمر ذاته ينسحب على رئيس الحكومة وعلى مجلس الوزراء الذي يعود له اعلان الحرب والسلم ( المادة 65).
وإذا لم يفعل رئيس الحكومة والوزراء فعلى مجلس النواب واجب اتهامهم بالإخلال بالواجبات المترتبة عليهم (المادة 70).
لكل ما سبق، لا إعمال للميثاقية في المسائل اللاميثاقية واللادستورية، فسلاح الحزب أصلاً غير ميثاقي، بل هو انتهاك سافر للدستور، وإعادة العمل بالدستور والقوانين le respect du droit du for، لا تحتاج إلى ميثاقية، بل لا تحتاج حتى إلى تصويت في مجلس الوزراء ولا إلى أكثرية، ولا إلى مصادقة تشريعية validation législative، تحتاج فقط إلى تطبيق صلاحيات رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء والنص الدستوري، لأنها من صلب صلاحيات السلطة التنفيذية وعملها prérogative de l'exécutif.
لا بدّ من التذكير أخيراً "حزب الله" بسياسة حليفيه إيران وسوريا الأسد، مع الجماعات المدنية لا المسلحة، فقط لأنها معارِضة. فأين الميثاقية في قتل مهسا أميني الكردية في مركز الاعتقال في “وزرا” في طهران، وأين الميثاقية في "المجزرة الإبادية" التي ارتكبها نظام الأسد في حماه السنيّة عام 1982، والتي أسفرت عن سقوط 40,000 قتيل؟