"قطاف" الملح في ملّاحات شمال لبنان: بين فكّين شرسين

تُصارع صناعة الملح في أنفة شمال لبنان من أجل البقاء وهي واقعة بين فكّين شرسين: منافسة استيراد الملح الرخيص، ومشروع مجمّع سياحي ضخم في البقعة الجغرافية التي قامت عليها هذه الصناعة التقليدية المميزة.

تقلّصت المساحات التي كانت تستضيف الملّاحات من 500 ألف متر مربع إلى 12 ألف متر مربع، وانصرفت مئات العائلات عن العمل بالملح، ولم يبقَ منهم سوى 4 عائلات. 

 يذكر أن أن صناعة الملح تعود لخمسينات القرن الماضي، وعندما وقعت الأحداث في لبنان عام 1975، توقف العمل نهائياً لمدة سنة قبل أن يعاود البعض عمله.

جسيكا نجار، وجورج سليمان- من قلة ما زالت مصرة على الحفاظ على تراث الأجداد، تؤْثِر النجار أن تسمي الصناعة بـ"قطف" الملح أسوةً بأي إنتاج آخر، كقطاف التفاح والإجاص وسوى ذلك، مؤكدة على توارث تقنياتٍ "لاستخراج الملح طبيعياً، نظيفاً، ولا يحتاج لتكرير".

    وتُعَدِّد نجار 3 عناصر أساسية لصناعة الملح، وهي ماء البحر والشمس والهواء التي تتوافر بصورة مناسبة من أوائل حزيران /يونيو) لأواخر أيلول/ سبتمبر).

    طريقة "القطف" وملح الطرقات

    يُجمع الماء في بُرَكٍ كبيرة ويُترك ليترقد، ويتنظف من أية أوساخ، ثم توزع المياه على بُرَكٍ أصغر، موضحةً  أن "كلّ قطفة ملح تحتاج لنحو 20 يوماً". 

    ويعرض سليمان عملية قطف الملح بأصنافه وحالاته المختلفة، موضحاً أسباب انتفاء الحاجة لتكرير الملح المنتج محلياً "لأن الطريقة التي يتم استخراج الملح بها تعرّض الملح للتكرير الطبيعي".

    وتضيف: "ما يجري هو استيراد الملح المصري غير الصالح للاستخدام المنزلي، والمخصّص لغايات أخرى مثل فتح الطرقات أيام الثلج"، مستدركة أنه "من المؤسف أن الدولة ألغت الضرائب عنه، فقرر بعض مقتنصي الفرص بلبنان تحويله للاستخدام المنزلي، ما شكّل خطراً على انتاج الملح المحلي الذي ننتجه". 

    بدوره، يؤكّد سليمان أن توقف كثيرين من العاملين عن انتاج الملح سببه اتجاه الناس لشراء الملح المصري الأقل كلفة بكثير، فثمن الطن المستورد 27 دولار، مقابل 100-110 دولار للملح المنتج محلياً، ولم يأبه المواطن للفرق الكبير صحيّاً بين الصنفين".

      مناشدات الملاحين لحماية الانتاج الوطني من المضاربة الخارجية باءت بالفشل، ما ترك صعوبة كبيرة في صناعة الملح، ورغم ذلك، تقول نجار، "لم نصل لقناعة الاعتكاف عن العمل بالملح، فهو تراث، وصلنا من أجدادنا وأهلنا، لذلك فقط نحن نثابر حفاظا على إرث حضاري وإيكولوجي قديم". 

      خطر يتهدد صناعة الملح

      ويجمع كل من سليمان ونجار على أن هناك خطراً آخر أكبر يهدّد صناعة الملح الوطنية هو مشروع الاستثمار السياحي في المنطقة، وقد دُفِعَتْ تعويضات لكثيرين من الملاحين الذي اعتزلوا المهنة.

      يرى سليمان أن "ذروة العمل بالملح كانت قبل العام 1975، وملاّحات انفة كانت تنتج 90% من حاجات السوق، ما يناهز 50-60 ألف طن، وربما أكثر. واليوم لم يبق إلا نحو 20 حصة بمساحة تقارب الـ 12 ألف متر مربع، حول دير سيدة الناطور، من مساحة الـ 500 ألف متر تقريباً، وهي توقفت لصالح المشروع السياحي".

      تتوزع الحصص  على 4 عائلات: النجار وعندهم الحصة الأكبر (7000 متر متر مربع)، واثنان من بيت سليمان، جورج 3500، وابن عمه 2700، وآل مالك 2700، أما الانتاج فبات 350 -400 طن ملح وطني، وبين 5-7 طن ملح زهرة. 

      منذ 5 سنوات بدأت عملية إعادة ترميم دواليب الهواء التقليدية حفاظاً على الإرث، وهذا العام أوقف نهائياً ضخ المياه بواسطة مضخات البنزين والمازوت، ويفيد سليمان "ركبنا ألواح طاقة شمسية، وعادت الملاحات تعمل بواسطة الطاقة الخضراء فقط، الطاقة الشمسية ودواليب الهواء".

        يستمر نضال بضع عائلات في استخراج الملح، أو "قطافه"، وهمّهم الحفاظ على تراث الأجداد، والحصول على الملح النظيف، والصحي، خصوصاً أن المنطقة التي تحتوي على البرك تجاور بقعة نظيفة في البحر بحسب شهادات علمية، محلية ودولية، "أمّا متى نُفِّذ المشروع السياحي، فمن المؤكد أن المياه ستتلوث، وسيقضى نهائياً على تراث تاريخي عريق في صناعة الملح"، يختم سليمان.