قنابل موقوتة في المجمعات السكنية... ما حقيقة المواد المخزّنة في مستودع طريق المطار؟

ثمانية أيّام استهلك احتراق مستودع الأقمشة في منطقة طريق المطار. الحريق الكارثيّ الذي التهم مستودعاً للبرادي، والخشب، والإسفنج، والبوليستر وغيرها من الموادّ القابلة للاشتعال.

يقع المستودع في مجمّع سكنيّ من 5 إلى 6 أبنية منفصلة فوق الأرض. لكن ما خفِيَ كان أعظم، إذ تجمع هذه الأبنية أسفل الأرض مساحةٌ شاسعة مشتركة تضمّ عدّة مستودعات، يفصل بين المستودع والآخر حجر خفّان قابلٌ للاختراق بالنيران بسهولة، وفق مصادر الدّفاع المدني.

امتلأ أوتوستراد المطار منذ أيّام بطوابير عائلات نازحة من بيوتها الآيلة إلى الانهيار، وقد هربوا خوفاً من الاحتراق، الاختناق، والموت نتيجة إهمال هندسيّ، بل تخزينيّ كاد يودي بحياة المئات من السكّان ليلاً.

المشهد هنا مأسوي. طوابير من العائلات نازحة من منازلها مع أمتعتها تُقيم على أوتوستراد المطار، وكتلٌ دخانية سوداء قاتمة تعمّ المنطقة، والرؤية منعدمة، وسيارات وآليات الدفاع المدني، وفوج الإطفاء، بالإضافة إلى أضواء وأصوات سيّارات الإسعاف في حركة لا تهدأ، والنيران ملتهبة في باطن الأرض.

حصدت هذه الكارثة الشهيد محمد بيدي من الدفاع المدني، في ليلته الأولى، يوم الثلاثاء، وعشرة جرحى من الفريق عينه، إصاباتهم ما بين حروق وحالات اختناق.

سرعة تمدّد النيران ودرجات الحرارة الملتهبة أعاقت عمليّات الإطفاء، وكانت السبب الرئيسيّ في التهاب المستودع مدّة ثمانية أيام متواصلة.

وأفادت مصادر لـ"النهار" عن وجود موادّ وأبخرة كيميائية وبيولوجيّة شديدة الخطورة في المكان، تفاعلت مع الأقمشة والبضائع المخزّنة، وسبّبت هذا الالتهاب الشديد للنيران، الذي امتدّ لأكثر من أسبوع، بالرغم من الجهود المكثّفة من الجهات المختصّة لإخماده.

وفي حديث خاصّ لـ"النهار" أوضح خبير الحرائق في الدفاع المدنيّ شربل المسنّ بأنّ المصنع مكوّن من 3 طبقات سفليّة بمساحة 6500 متر، كان صاحبه قد أفرغ فيه 3 حمولات من البضائع، من بينها إسفنج، بوليستر، خشب، قماش، ريزين، وموادّ لاصقة قابلة للاشتعال، مضيفاً أنّ الحريق اندلع بعد إقفال المصنع بساعة تقريباً، وامتدّت النيران بسرعة كبيرة.

وتابع المسنّ: "نهار السبت، عند الساعة الثالثة والنصف، وأثناء استكمال محاولات الإخماد، تفاجأنا بتصاعد الدخان الأسود من سوبرماركت العامليّة الموجودة في المقلب الآخر للمصنع المشتعل. وبمجرّد انتقالنا إلى الجهة الأخرى، اختفى الدّخان الأسود من جهة المصنع. كُسر حائط الخفّان الفاصل بين المصنع ومستودعات العامليّة، وانتقلت النيران إلى داخلها، حيث تُخزّن معظم المواد الغذائية، ممّا استدعى دخولنا إلى السوبرماركت، بينما بقي الفريق الآخر عند باب المصنع في محاولة للسيطرة على النيران".

وأردف: "أخلينا البناء الموجود في أسفل المصنع، وأخبرنا سكّان المجمّع بضرورة المغادرة بسبب خطورة البقاء. لكن سكّان الجهة الغربيّة رفضوا المغادرة، بينما غادر نصف سكّان الجهة الشرقيّة، والنّصف الآخر قبع في المنازل تحت الخطر". وأضاف: "للتخزين أصول معيّنة كفصل المواد وفق نوعيتها، وإغلاق الموادّ القابلة للاشتعال جيداً، وهي غائبة كليّاً في هذا المصنع. البضائع مكدّسة فوق بعضها، ومرميّة بشكل عشوائيّ وبكميّات هائلة".

وقال المسنّ: "بصعوبة فائقة، وبين الحياة والموت، استطعنا الوصول إلى طابقين سفليين، بينما الثالث احترق بشكل كليّ، ووهج الحرارة، والخطورة الفائقة، منعتانا من الوصول إلى الطابق الثالث. بذلاتنا مكوّنة من طبقات عدّة مضادة للحرارة، لكننا بمجرّد دخولنا كنا نشعر بحرارة فائقة. جزمات الحريق كانت تذوب، وخوذات الوقاية تغيّر لونها. عملنا في ظروف صعبة وشبه مستحيلة، ودرجات الحرارة التي كنّا نشعر بها تكاد لا تُوصف".

وكان محافظ بيروت القاضي مروان عبود أوضح في حديث لـ"النهار" بأنّ فِرَق الإطفاء من فوج بيروت لبّت النداء للمساعدة في إطفاء الحريق، الذي شبّ في معمل للأقمشة في الضاحية الجنوبية لبيروت، مشيراً إلى أنّ "عدد سيّارات الإطفاء والعناصر البشرية في اليوم الأول كان كافياً، ولم تكن هناك حاجة ماسّة لعمل فوج الإطفاء. ولكن بعد عدم السيطرة على الحريق، باشرت الإطفائيّات التابعة لفوج بيروت عملها، بهدف السيطرة على الحريق الضخم الذي التهم معملاً للأقمشة بالقرب من طريق المطار".

ولفت عبود إلى أنّ "فوج الإطفاء في بيروت يُلبّي النداء حتى لو كانت المنطقة المتضرّرة بعيدة عن العاصمة، والتجارب تشهد على ذلك".

بدوره، أكّد رئيس اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية محمد ضرغام أنّ هذا ليس مصنعاً بل مستودع بضائع، ومركز خياطة مؤلّف من ثلاث طبقات، مساحة كلّ طبقة نحو 1500 متر مربّع. وهو يستورد الأقمشة ويُعيد خياطتها برادي داخليّة وخارجيّة، مشيراً إلى أنّ البضائع الموجودة في المستودع عبارة عن أثواب أقمشة لتصنيع جميع أنواع البرادي بكافّة أنواعها، وجميعها قابلة للاشتعال. واعتبر أنه لا يُمكن لأحد أن يجزم بالسبب الحقيقي لاحتراق المستودع، إلى حين انطفاء النيران كليّاً والكشف على المكان.

صاحب المستودع وليد المصري، من سكّان بيروت، حضر أمام المصنع في اليومين الأوّلين، إلا أنّه اضطر إلى المغادرة عقب حصول عدّة تشنّجات بينه وبين سكّان المجمّع، وترك أحد أقاربه للوقوف على آخر مستجدّات الكارثة.

وعمّا اذا كان تمّ توقيفه لوجود موادّ كيميائيّة سائلة، أكّد ضرغام أنّ "لا أنباء تجزم بوجود مثل هذه الموادّ، والمصري طليق، يتابع تفاصيل الأحداث من خلال أقاربه الموجودين على الأرض، والمستودع ملك خاصّ للمصري بسندات قانونيّة وليس بعقد إجار".

قانونياً:

يجزم المحامي علي عباس بأنّ "القانون يُحظّر على المواطن أن يضع موادَّ خطرة قابلة للاشتعال أو التفجير، أو يمكنها تشكيل خطر على السلامة العامّة، في مناطق سكنيّة غير مخصّصة لإنشاء مستودعات صناعيّة"، موضّحاً بأنّ "القانون ينظر إلى هذا الموضوع على أساس أنّه إيذاء من غير قصد"، مشيراً إلى "وجود آلية معتمدة للتخزين في المستودعات كفرز البضائع وفصلها، ووجود إطفائيّات جديدة ومجهّزة، مع التأكّد من سلامة ساعات الكهرباء والإمدادات. وإن كان التخزين لا يراعي معايير السلامة العامّة والوقاية، وتسبّب إهماله بضرر للسكّان، فبإمكانهم رفع دعوى عطل وضرر تسمّى بدعوى "المسؤولية عن العطل والضرر الذي لحق بهم"، إن كانت أضراراً ماديّة، أم معنوية، أم صحيّة".

وتابع: "إذا تأكّد وجود موادّ كيميائيّة وبيولوجية خطرة قابلة للانفجار في منطقة سكنيّة، فالقانون يتّجه نحو تهمة "القصد الاحتماليّ بالضرر نحو الناس"، ومن الممكن أن تؤدي هذه القضية إلى توقيف صاحب المستودع، وسجنه، بسبب تعريض حياة الناس للخطر، ومقتل أحد عناصر الدفاع المدنيّ، وإصابة عدد كبير منهم بشكل مباشر"، مذكّراً بأنّه "بمجرّد وفاة شخص في حريق سببه إهمال يتمّ توقيف صاحب العلاقة، ويحوّل إلى التحقيق إلى حين تبيان تفاصيل الحادث، ثم يتّخذ القرار القضائيّ بحقّه".

أثر الحريق وتنشّق الانبعاثات على صحّة الإنسان

 تؤكّد الدكتورة في علم السّموم زينة داغر، من جمعية الأرض - لبنان، أنّ هذه الكميّة من الدّخان قد تُسبّب حالات اختناق. ومن الممكن أن تؤثر سلباً على صحّة الإنسان، وأن تُظهر أعراضاً جانبيّة فوريّة كتهيّج العين، وسيلان الدّموع، والسّعال، وسيلان الأنف. وإذا استمرّ تنشّق هذا الدّخان لأيّام متواصلة وأسابيع، فقد يؤدّي إلى انخفاض في وظائف الرئة، وإلى سُعال مستمرّ؛ وفي الحالات الأكثر شدّة، الموت.

ومن المؤكّد أن هذه الانبعاثات تحتوي على جسيمات يبلغ قطرها أقلّ من 2.5 ميكرومتر (PM2.5) وتخترق بعمق الجهاز التنفسيّ لتسبّب تلفاً في الرئتين والقلب والدماغ. وتحذّر داغر من تعرّض الأطفال والحوامل ومرضى الرّبو لهذه الجسيمات، مؤكّدةً على وجوب اتباع اتّجاه الرياح لتجنّب تنفّس هذه الأدخنة قدر الإمكان.

وتضيف أنّ حرائق الخشب تُنتج مادّة الـ"dioxine" المسرطنة للإنسان، وهذه الموادّ تبقى في الهواء والبيئة لسنوات طويلة جداً، ولا تختفي وتذهب بمجرّد اختفاء الدخان، مؤكّدةً أنّ الأمر ليس محصوراً في المنطقة، حيث يقوم المصنع بل يمتدّ إلى جميع أرجاء المدينة.

وتشدّد داغر على ضرورة التحرّك سريعاً لإخماد الحريق وإظهار نتائج التحقيقات بأسرع وقت ممكن لحماية أرواح السكّان بسبب ما يُمكن أن تحتوي عليه هذه الأدخنة من مركّبات سامّة أخرى، أو مصنّفة على أنّها مسرطنة للإنسان.

الأثر البيئي

 من جهته، أكّد رئيس حزب البيئة العالميّ الدكتور ضوميط كامل أنّ "هذا الحريق يحتوي على كميّات عالية من الـ"dioxine"، ويُنتج نوعاً من الكتلة الهوائيّة، تتطاير ضمن المنطقة على شُعاع يقدّر بـ3 كيلومترات، بارتفاع يبلغ 500 متر تقريباً. وضمن هذه الكتلة، هناك الكثير من الشوائب، والملوّثات الهوائيّة والكربون؛ والخطر الأكبر أنّ جميع الموادّ التي تحترق تبقى في باطن الأرض. وجميع الموادّ الموجودة في المستودع مصنّعة من البلاستيك وبقايا البلاستيك المعدّة للتدوير، التي يُنتج احتراقها كميّات كبيرة جداً من الديوكسينات".

وحذّر كامل من أنّ درجة التلوّث هذه يدفع ثمنها جميع الأطياف السكانية الموجودة. لذلك، من الأفضل الابتعاد قدر الإمكان عن أماكن تنشّق هذه الأدخنة المسرطنة، وإبقاء أبواب المنازل مغلقة، للحدّ قدر الإمكان من دخول هذه الجزيئات إلى الداخل.

ولفت كامل إلى أنّ الكتل الهوائيّة الموجودة تتأرجح غرباً وشرقاً لمسافة 20 كلم. في المساء، الهواء الشرقي يسحبها 20 كلم، ممّا يعني أنّ هذه الكتلة تتلطّف بمجرّد ملامستها سطح المياه، ونهاراً عند هبوب الرّياح الغربيّة الشرقيّة تتلامس الكتل بالجبال، وتتلطّف ضمن الثروة الحرجيّة. ولكن في وقت معيّن من النهار، نمرّ بفترة هدوء هوائيّ فتعمّ الكتلة الهوائية المنطقة ككلّ، وتتباعد وتنتشر لمسافة 10 كلم من المركز الرئيسي، ولا شكّ في أنّ ما يحدث كارثة بيئيّة بامتياز.

الإهمال والفساد سيّدا الموقف في كلّ كارثة تحلّ من دون حسيب أو رقيب، في ظلّ وجود مولّدات الكهرباء، والمازوت المخزّن، واختلاط المناطق الصناعية والسكنية بشكل متوازٍ مع انعدام المسؤولية والمحاسبة؛ فجميعنا يعيش مع قنبلة موقوتة لا نعرف متى تنفجر!