كيف تعود الثقة بالقطاع المصرفي؟

بعد طول انتظار أقرّ مجلس النواب اللبناني قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، في خطوة وُصفت بـالمحورية وتعتبر مطلبًا أساسيًا للمؤسسات الدولية المانحة، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، تمهيدًا لإصلاح القطاع المالي المتعثر في لبنان.

ولعل ما يهم اللبنانيين من إقرار هذا القانون هو ما يتعلق بأموال المودعين ولكن بات معروفاً ان إقرار هذا القانون لن يعيد أموال المودعين من دون إقرار قانون إعادة الانتظام المالي أو ما يعرف بالفجوة المالية وبالتالي يُعدّ قانون إصلاح المصارف خطوةً أولية نحو تنظيم القطاع المصرفي وإعادة هيكلته. لكنه، في صيغته الحالية، لايزال بعيداً من أن يكون حلاً شاملاً للأزمة المالية. فتعليق تنفيذه إلى حين صدور قانون الفجوة المالية.

في هذا الإطار يقول الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو في حديث للديار ؛ "منذ اندلاع الأزمة المالية في لبنان في العام 2019، واجه القطاع المصرفي انهياراً غير مسبوق، تمثّل بتجميد الودائع، توقّف التحويلات إلى الخارج، غياب المعايير المحاسبية الموحدة، وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي ككلّ، لافتاً أنه في ظل غياب أي إطار قانوني يُنظّم كيفية التعامل مع المصارف المتعثرة، سادت حالة من الشلل القانوني والضبابية، وأُجّلت المعالجة الفعلية للأزمة. اليوم، "وبعد حوالى خمس سنوات من التدهور الحاصل، جاء إقرار قانون إعادة هيكلة المصارف كخطوة محورية لكسر الجمود والانطلاق نحو معالجة حقيقية للأزمة".

إعادة ربط لبنان بالاسواق المالية

ووفقاً لقانصو" وجود قطاع مالي وتحديداً مصرفي موثوق به هو المفتاح لإعادة ربط لبنان مع الأسواق المالية العالمية. كما وأن وجود قطاع مصرفي أصغر وأمتن من شأنه أن يعزّز الانتاجية وفعالية التكلفة. إضافةً إلى ذلك، فإن سلامة القطاع المصرفي لها تأثير ملحوظ في المخاطر السيادية وبالتالي على أي تصنيف سيادي محتمل للبنان، مشيراَ إلى أن المصارف ليست مجرّد مؤسسات لتلقي الودائع أو تقديم القروض، بل هي شريان حيوي للاقتصاد، تؤدي دور الوسيط المالي بين الادخار والاستثمار، وتؤمن التمويل للتجارة والخدمات والإنتاج".

وإذ حذّر قانصو "إذا بقيت هذه المؤسسات محاصَرة بفقدان الثقة، سيبقى الاقتصاد في حالة جمود، وستستمر حركة الأموال في التقلّص، سواء داخل النظام المصرفي أو عبره،  اعتبر أنه من هنا تأتي أهمية إصلاح القطاع المصرفي بجهود إعادة الهيكلة لتعزيز وضعيته المالية وحوكمته وقدرته على مواجهة الضغوط، ولا سيما أن فقدان الثقة في القطاع المصرفي اللبناني يعني فقدان الثقة في النظام الاقتصادي والمالي في لبنان بشكل عام".

اللجوء الى التصفية او الدمج

وحول أهمية هذا القانون رأى قانصو أنها تكمن في الأمور الاتية:

"أولاً: في وضع إطار قانوني متكامل لمعالجة أوضاع المصارف المتعثّرة، عبر تصنيفها إلى قابلة وغير قابلة للاستمرار، والسماح بتطبيق إجراءات تشمل تخفيض رأس المال، أو اللجوء إلى التصفية أو الدمج، لافتاً أن هذا الإطار يمكّن الجهات الرقابية، وعلى رأسها مصرف لبنان وهيئات الرقابة المالية، من التدخل ضمن صلاحيات واضحة، بدلاً من المعالجة الارتجالية التي كانت سائدة".

من هنا، يعتبر قانصو "إن إقرار قانون إعادة هيكلة المصارف يُعدّ كتأسيس لإطار قانوني طال انتظاره، يشكّل المرجعية الأساسية للتعامل مع واقع الإفلاس المصرفي، ويفرض على جميع الأطراف المعنية، من الدولة إلى المصارف إلى الجهات الرقابية، الالتزام بمسار قانوني منظّم وعادل، "فالقانون لا يهدف فقط إلى حلّ الأزمة الحالية، بل إلى منع تكرارها في المستقبل من خلال وضع ضوابط ومعايير محاسبية، وحوكمة سليمة، وأدوات تدخل قانونية واضحة وشفافة، تحاكي النماذج المعتمدة دوليًا في إدارة الأزمات المصرفية.

ثانياً: يساهم القانون في حماية حقوق المودعين، لا سيما صغار المودعين، الذين يشكّلون الشريحة الأوسع من المجتمع اللبناني. فتُمنح هذه الفئة معاملة تفضيلية في حالات التصفية أو إعادة الهيكلة، سواء من خلال الحفاظ على ودائعهم أو تعويضهم جزئياً عبر صناديق خاصة أو خطط تعافٍ مستقبلية، "وهذا التوجه يُعتبر ضرورة اجتماعية واقتصادية، كونه يحدّ من الانكماش، ويحافظ على شريحة أساسية من القدرة الشرائية في السوق.

ثالثاً: تأتي أهمية قانون إعادة هيكلة المصارف على أنه يُشكّل مدخلاً أساسياً لإعادة ترميم الثقة المنهارة في القطاع المصرفي، ليس فقط من خلال إعادة تنظيم القطاع، بل أيضاً من خلال إظهار نيّة الدولة في الاعتراف بالأزمة ومعالجتها بشفافية، محاسبة المصارف غير السليمة مالياً، ومعالجة أوضاعها ضمن إطار قانوني واضح، تقديم تصوّر شفاف حول مصير أموال الناس، بعيداً عن الغموض والمماطلة والتسويف، ناهيك بضمان الشفافية والرقابة في كل خطوة من إعادة الهيكلة، بما يُطمئن الرأي العام أن الأمور تُدار هذه المرة وفق القانون، وليس وفق التسويات السياسية. كذلك، يبعث القانون برسائل طمأنة ضرورية للداخل والخارج."

ويشدد قانصو على أنه لا "يكفي فقط إصلاح الميزانيات العمومية للمصارف أو إعادة رسملتها تقنياً، بل المطلوب هو إعادة بناء العلاقة المعنوية والقانونية بين المصارف والمودعين، بين الدولة والقطاع المالي، وبين لبنان والعالم. "وبالتالي، فإن إقرار قانون إعادة هيكلة المصارف هو خطوة أولى ومفصلية على هذا الطريق".

التحول في القطاع المالي والرسملة الهشة

ويضيف قانصو"رابعاً: يشكّل إقرار قانون إعادة هيكلة المصارف نقطة تحوّل في إعادة رسم مشهد القطاع المالي في لبنان، الذي يعاني اليوم من فائض في عدد المصارف غير الفاعلة مقابل شح كبير في السيولة، رسملة هشة، وتراجع في القدرة التشغيلية. فالأزمة لم تقتصر على فقدان الثقة أو تجميد الودائع، بل كشفت هشاشة البنية المصرفية نفسها، وفشل النموذج الذي كان يعتمد على الهندسات المالية والعوائد المرتفعة من الدين العام بدل التمويل الإنتاجي، "من هنا، يُعدّ هذا القانون مدخلاً فعلياً لبناء قطاع مصرفي جديد، أقلّ حجماً ولكن أكثر فعالية، قائم على الكفاءة والمخاطر المدروسة، بدلاً من التراكم العشوائي للأرباح عبر الفوائد المرتفعة. وبالتالي، إن إعادة هيكلة القطاع، بموجب هذا القانون، تفتح الباب أمام تحفيز بيئة مالية جديدة قابلة لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية". أما بالنسبة للتداعيات فيرى قانصو إن إحدى أبرز نتائج إعادة الهيكلة هي إقصاء المصارف غير القابلة للاستمرار، أي تلك التي تُظهر فجوات كبيرة في ميزانياتها ولا يمكن رسملتها أو تصحيح أوضاعها حتى بعد إعادة التقييم. فإخراج هذه المصارف من السوق أو دمجها مع أخرى ضمن إطار قانوني، يؤدي إلى تقليص عدد المصارف بطريقة مدروسة، "وبالتالي رفع الجودة المؤسساتية لمن يبقى في السوق، وإعادة التوازن بين عدد المصارف وحجم الاقتصاد الفعلي،وفي هذا السياق، تُصبح الساحة المصرفية اللبنانية أكثر جاذبية أمام كل من المستثمرين الأجانب الذين يبحثون عن فرص استثمار في بيئة مصرفية متماسكة وشفافة، المؤسسات المالية الإقليمية والدولية التي قد تنظر في دخول السوق اللبنانية أو شراء حصص في مصارف قائمة قابلة للاستمرار، وأخيراً المستثمرين المحليين الذين يملكون ملاءة مالية ويطمحون إلى تأسيس مصارف جديدة تعمل وفق المعايير الحديثة وتخدم الاقتصاد الحقيقي".

خامساً: يأتي قانون إعادة هيكلة المصارف ليضع حداً للفوضى القانونية والقضائية، عبر توحيد المسار القانوني والقضائي وتنظيم العلاقة بين الدولة والمصارف والمودعين بشكل واضح وعادل. ويمنح القانون الجهات الرقابية، مثل مصرف لبنان والهئيات الرقابية، صلاحيات محدّدة لضبط القطاع المالي، ويعيد بناء علاقة متوازنة بين الدولة والقطاع المصرفي بعدما كانت مبنية على مصالح متشابكة وغير شفافة. بالإضافة إلى ذلك، يوفّر القانون أدوات قانونية واضحة للجهات القضائية، تساعد القضاة على الفصل في النزاعات المتعلقة بالأموال المجمدة والودائع بطريقة موضوعية ومنصفة، بعيداً عن الاجتهادات الفردية والتباين في الأحكام. في المحصّلة، يُعيد القانون بناء الإطار المؤسسي والقانوني الذي انهار خلال الأزمة، ويعزّز ثقة المودعين والناس بالمؤسسات القضائية والمالية، مما يشكل أساساً ضرورياً لأي إصلاح مالي ومستقبلي مستدام في لبنان"..

التحديات والمخاطرفي ألية التطبيق

في المقابل يشير قانصو إلى" أن إقرار قانون إعادة هيكلة المصارف هو خطوة ضرورية، ولو متأخرة، لإنهاء حالة الجمود المالي، ووضع البلاد على سكة التعافي، لكنه ليس كافياً وحده، بل يجب أن يُستكمل بخطة شاملة لمعالجة الفجوة المالية وتوزيع الخسائر، إصلاح المالية العامة، وإعادة هيكلة الدين العام. إذ لا يخلو القانون من بعض التحديات والمخاطر الي قد تبقى كامنة أمام طريق تطبيقه وهذه التحديات هي:

أولاً، إقرار القانون لا يعني حتماً بدء الحلول الفورية. فالإجراءات القانونية لإعادة الهيكلة عادة ما تكون معقدة وتأخذ وقتاً طويلاً، وقد يشهد اللبنانيون تأخيراً في استعادة أموالهم أو تحسين ظروف القطاع المصرفي، مما قد يزيد من حالة الإحباط وفقدان الثقة.

ثانياً، في حال لم يتمّ توزيع الخسائر بطريقة عادلة وشفافة، قد يتضرر صغار المودعين الذين يعتمدون على أموالهم في حياتهم اليومية، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. بعض الآليات مثل الـbail-in قد تؤدي إلى تضاؤل قيمة الودائع.

ثالثاً، إن إعادة هيكلة القطاع المصرفي قد تسبّب حالة من الاضطراب المالي مؤقتاً، حيث قد يخشى المستثمرون والمودعون من الخطوات الجديدة، ما قد يؤدي إلى سحب أموال إضافية أو تجميد الاستثمارات، وبالتالي تراجع السيولة.

رابعاً: حتى مع وجود القانون، قد تعاني الجهات الرقابية مثل مصرف لبنان من نقص الموارد أو الاستقلالية اللازمة لتطبيق القانون بصرامة وشفافية، مما يهدد نجاح عملية إعادة الهيكلة.

خامساً: قد تواجه عملية تنفيذ القانون عراقيل سياسية، خصوصاً في ظل تشابك مصالح المصارف مع بعض الجهات السياسية والمالية، فالفساد والمحسوبية قد يؤديان إلى تطبيق غير عادل أو انتقائي، مما يقلل من فعالية القانون ويؤثر في العدالة بين الأطراف."

القانون نقطة انطلاق نحو الاصلاح

وختم قانصو قائلاً: "لا يمكن النظر إلى إقرار قانون إعادة هيكلة المصارف على أنه مجرّد بند إصلاحي تقني عادي، بل هو شرط أساسي لإعادة بناء النظام المالي اللبناني على أسس جديدة تقوم على الشفافية، العدالة، الكفاءة، والمحاسبة، و في الواقع، إن هذا القانون يمثل نقطة انطلاق حقيقية نحو إصلاح عميق وشامل، ولكنه ليس نهاية الطريق. فبدون تطبيق فعلي وجدي للقانون، سيبقى مجرد حبراً على ورق لا يغيّر الواقع، وستبقى الأزمة المالية والاقتصادية مستمرة ومتفاقمة. إذ أن النجاح في تطبيق القانون يتطلب إرادة سياسية قوية، وتنسيقاً بين جميع الجهات المعنية، بما فيها السلطات الرقابية والقضائية، لضمان حسن التنفيذ ومتابعة مستمرة. كما يحتاج إلى دعم المجتمع الدولي والمجتمع المدني للمساهمة في إرساء بيئة شفافة وعادلة. وبالتالي فإن إعادة هيكلة المصارف يجب أن تترافق مع إصلاحات مؤسساتية تضمن الاستقرار المالي وتعزز ثقة المواطنين والمستثمرين في النظام، مؤكداً أنه إذا تمّ الالتزام بهذه الخطوات، سيكون القانون خطوة حاسمة نحو استعادة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، ويعيد بناء الثقة بقطاع مصرفي قادر على دعم التنمية المستدامة وتحقيق النمو".