المصدر: independent arabia
الكاتب: طوني بولس
الأربعاء 30 تشرين الأول 2024 10:21:52
بين التطور التكنولوجي وتكتيكات التجنيد، باتت الحرب الاستخباراتية تتفوق على النزاعات العسكرية التقليدية في الصراع بين إسرائيل و"حزب الله"، فعلى رغم التقدم العسكري للحزب فإن اختراقات الاستخبارات الإسرائيلية لأسراره وأمنه أسفرت عن ضربات موجعة، سواء على مستوى قياداته أو مراكزه ومنشآته العسكرية المموهة.
وعلى رغم التدابير الأمنية الاستثنائية للحزب، ومنها تجنب استخدام الهواتف وتعطيل كاميرات المراقبة وتقليل الظهور العلني لعناصره ونقل القادة إلى أماكن إقامة جديدة وتغيير وسائط التنقل، تجنباً للرصد الجوي الإسرائيلي، لكن فاعلية الاستهدافات الإسرائيلية بقيت على وتيرتها، مما يعكس فاعلية أدوات التجسس في هذا الصراع الاستخباراتي الذي يزداد تعقيداً مع مرور الوقت وتطور وسائل المراقبة وجمع المعلومات، مما يجعل من الأمن "السيبراني" وتحليل البيانات تحدياً حقيقياً يضاف إلى الصراع الطويل في المنطقة.
يجمع معظم المحللين الإستراتيجيين والأمنيين على أن فاعلية الوسائل التجسسية لن تكون حاسمة وبهذه الدقة لولا وجود اختراق بشري كبير يعزز البيانات ويصوبها، لتتكامل مع الوسائل التكنولوجية ومنها تقنيات مراقبة الهواتف المحمولة التي شكلت جزءاً من إستراتيجيتها لتحديد مواقع قادة "حزب الله"، إضافة إلى أن تكنولوجيا التعرف على الوجه شهدت تقدماً كبيراً مكن القوات الإسرائيلية من التعرف على الأشخاص من خلال كاميرات عالية الدقة على متن المسيرات أو الأقمار الاصطناعية.
وتعد هذه التقنية التي تتيح التعرف على الأفراد من مسافات بعيدة طفرة في عالم الاستخبارات، مما يمكن من تعقب الأشخاص بمجرد خروجهم إلى أماكن عامة في مناطق العمليات.
بيانات الحزب
وتتعدد النظريات حول كيفية حصول إسرائيل على بنك معلومات مفصل عن عناصر "حزب الله" وقياداته، بما يشمل الأسماء والمناصب وأرقام الهواتف وحتى الصور الشخصية، ومن بين النظريات الأكثر شيوعاً الاختراق الإلكتروني وذلك بأن تكون إسرائيل اخترقت حواسيب تحوي معلومات حساسة تخص قيادات الحزب، ومع ذلك فإن احتمال هذا السيناريو ضئيل نظراً إلى أن حواسيب الحزب التي تحوي معلومات أمنية سرية غالباً ما تكون غير متصلة بالإنترنت لتجنب الاختراقات.
وقد تكون إسرائيل نفذت عمليات كوماندوز استهدفت مواقع لـ "حزب الله" للحصول على بيانات حساسة، وعلى رغم أن هذا الاحتمال لا يمكن استبعاده بالكامل فإن بعض المحللين يرونه ضعيفاً نظراً إلى الإجراءات الأمنية الصارمة والوجود السكاني الكثيف في مناطق الحزب.
ويبقى وجود عملاء داخل الحزب الاحتمال الأكثر ترجيحاً بأن تكون إسرائيل تمكنت من تجنيد عملاء أو أن أحد العناصر البارزة قد سرب معلومات حساسة، ويُرجح هذا السيناريو في ظل الإشاعات التي تتحدث عن تسريبات من داخل الحزب.
تجنيد العملاء
وتعتمد إسرائيل على الـ "موساد" وأجهزتها الاستخباراتية الأخرى في تجنيد عملاء جدد داخل لبنان، مستغلة منصات التواصل الاجتماعي ومواقع التوظيف الأخرى، وتشير تقارير إلى أن الـ "موساد" يستهدف أفراداً يعانون ظروفاً اقتصادية صعبة، معتمداً أساليب الترغيب المالي والابتزاز في بعض الحالات.
وتبدأ عملية التجنيد باختيار الأفراد بعناية بناء على مواقع عملهم في المؤسسات الحكومية أو الأمنية أو الأفراد العاطلين من العمل ممن يبحثون عن فرص مالية، وفي الخطوة الثانية تنصب الفخاخ الإلكترونية أو الشخصية ويتم الإيقاع بالضحايا عبر تهديدهم بتسريب معلومات شخصية حساسة، وفور ضمهم إلى شبكة العملاء يكلفون بتزويد الـ "موساد" بمعلومات حساسة ومهمة حول نشاطات "حزب الله" وتحركات قياداته.
وتشير تقارير استخباراتية غربية إلى أن انكشاف "حزب الله" أمنياً بدأ في سوريا، حيث يوجد الحزب في بيئة مفتوحة ومعقدة من الناحية الأمنية تشهد وجود قوى عدة قد تكون بعضها مخترقة من قبل أجهزة استخباراتية أخرى، مما يجعل من الصعب منع إسرائيل من استهداف قوافل الحزب العسكرية أو مخازن الأسلحة، بخاصة في ظل تمكن إسرائيل من تحديد مواقع العناصر من خلال التنصت ورصد التحركات على الأرض.
وخلال الآونة الأخيرة أعلن "حزب الله" توقيف عشرات العملاء ومنهم ممرض في مستشفى الرسول الأعظم وأشخاص آخرين على صلة قرابة بمسؤولين من الحزب، ومنهم من يصورون أماكن يعتبرها الحزب أمنية، إضافة إلى عدد كبير من السوريين الذين أوقفوا بشبهة التعامل مع إسرائيل.
إلا أن القوى الأمنية اللبنانية أفرجت عن العشرات منهم بعد عدم ثبوت أي تورط لهم، في حين حُول خمسة من أصل 100 مشتبه فيه إلى المحكمة العسكرية لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، بعد ثبوت تواصلهم وتزويدهم معلومات للـ "موساد" الإسرائيلي.
وفي هذا الإطار يكشف النائب أشرف ريفي عن أنه عندما كان مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي استطاع بمعاونة رئيس شعبة المعلومات الراحل وسام الحسن، تفكيك عشرات شبكات التجسس في لبنان وبعضها في سوريا، حيث أُبلغت السلطات السورية عن أفرادها.
تعاون "الحزب" والأجهزة
من ناحيته أوضح المحلل العسكري والإستراتيجي العميد ناجي ملاعب أن دور التكنولوجيا في عمليات التجسس والمراقبة التي تقوم بها إسرائيل، بالارتكاز على الذكاء الاصطناعي ومنظومة "بيكاسوس" ليس كافياً وحده، بل يحتاج إلى وجود عملاء على الأرض لتوفير المعلومات الأولية، لافتاً إلى أن إسرائيل من خلال الإنذارات التي توجهها بإخلاء المباني قبل قصفها ليس الهدف منها حماية المدنيين، بل رصد مزيد من المعلومات عن شخصيات ضمن بنك أهدافها، ولذلك توافر المسيرات تفاصيل مهمة في هذا الصدد تغني عن الحاجة إلى عدد كبير من العملاء والمخبرين، لكن يبقى لهم دور ولو بنسبة أقل من الفترة الماضية.
وأشار إلى أن هناك علاقة تعاون بين الأجهزة الأمنية اللبنانية و"حزب الله" في مجال مكافحة التجسس، كون القوى الأمنية الرسمية التابعة للدولة ترصد الاتصالات الخارجية بهدف التعرف على العملاء المحتملين الذين يتلقون تعليمات من دول عدة، بعد استدراجهم بصورة مموهة، بخاصة إذا كان مكان وجودهم القريب من مراكز تابعة لـ "حزب الله" يشكل أهمية لإسرائيل.
لكن هناك نقطة ضعف كبيرة وهي أن الحزب لا يتعاون مع الأجهزة الأمنية التابعة للدولة اللبنانية عندما يتعلق الأمر بالعملاء الذين يكتشفهم داخل صفوفه، مما يعني أن التعامل مع هؤلاء العملاء قد يتم خارج إطار القانون والقضاء اللبناني، وهو ما يثير تساؤلات حول الشفافية والعدالة في هذا السياق.
ولفت إلى أن المعلومات حول العملاء داخل صفوف "حزب الله" تبقى سرية مما يجعل من الصعب تقييم مدى نجاح الجهود في مكافحة هذه الظاهرة، أو حتى أو معرفة كيفية التعامل مع هؤلاء الأفراد، مضيفاً أن "التقنيات التي توافرها إسرائيل لعملائها أصبحت أكثر تقدماً مما كانت عليه في السابق، وهو ما يعزز قدرتهم على التمويه والاختفاء".
الوضع الاقتصادي
بدوره رأى الخبير العسكري العميد عادل مشموشي أن "التعاون مع العدو عمل محظور قانوناً، ويعتبر لا أخلاقي وغير وطني، لكن أنشطة الاستخبارات والاستعلام الأمني والإستراتيجي تظل نشطة، سواء في زمن السلم أو الحرب، نظراً إلى أهمية وجود عملاء للمساعدة في تحديد الأهداف ورصد النتائج قبل وبعد أية عملية عسكرية".
ورجح أن يكون الوضع الاقتصادي المتردي عاملاً مساعداً لأي عدو أو دولة في تجنيد الأفراد لخدمتها، معتبراً أن الضائقة المادية وضعف النفوس يجعلان من السهل على بعضهم الانجرار نحو التعاون مع العدو.
وقال إن "عدم الكشف عن شبكات التجسس خلال هذه الحرب يعود لأسباب عدة، منها أن بعضهم يعمل بصورة فردية مما يصعب تحديد الشبكات الأكبر، أو لعدم رغبة الأجهزة الأمنية في الإعلان عن ذلك، وتفضيل إبقائهم تحت المراقبة لكشف المعلومات المتبادلة والاستفادة منها أمنياً".
وكشف عن أن "أكبر الشبكات التجسسية اكتشفت عندما كان الراحل وسام الحسن مسؤولاً عن شعبة المعلومات، إذ كانت النتائج تتسم بالدقة والأهمية مقارنة بالوضع الحالي"، وتابع أنه "من الممكن أن يكون سبب هذا التراجع مرتبطاً بعدم قدرة الأجهزة الأمنية المتخصصة على مواكبة التقنيات الحديثة والمتطورة التي يستخدمها العملاء في مجال الاتصال والتواصل، مما يجعل الأمور أكثر تعقيداً وصعوبة".
تمويه عن الشبكات الكبرى
وفيما توالت في الأشهر الماضية أخبار إلقاء القبض على عملاء لبنانيين وسوريين يرسلون معلومات لإسرائيل من الشوارع في الضاحية الجنوبية لبيروت أو الجنوب أو البقاع، أو يلتقطون الصور بعد كل عملية استهداف دقيقة أو اغتيال، توقف محللون عند ما اعتبروه تمويهاً بهدف إبعاد الشبهات عن الشبكات الكبرى أو العملاء الموجودين في مجالس قيادات الحزب، ويقولون إن العملاء الأفراد في الشوارع دورهم خجول جداً وأشبه بالتمويه عن شبكة التجسس الأكبر الموجودة بالقرب من القيادات وهي الأخطر والأكثر أهمية لتل أبيب باعتبار أنها ترسل معلومات عن أهم الشخصيات في "حزب الله"، ويعتبرون أنها كانت السبب في نجاح اغتيال أمين عام الحزب حسن نصرالله وثم رئيس المجلس التنفيذي هاشم صفي الدين، وقبلهما إبراهيم عقيل وفؤاد شكر.
اختراق داخلي
بدوره كشف الرئيس التنفيذي لمؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري رياض قهوجي عن أن هناك طرقاً عدة لتجنيد العملاء، مثل استغلال الأوضاع المعيشية الصعبة والابتزاز وتجارة المخدرات، أو من خلال استغلال العقائد والأيديولوجيات، معتبراً أن الوضع الأمني في لبنان أصبح مكشوفاً بعد الأزمة الاقتصادية، وأن الانقسامات السياسية والعقائدية كبيرة، مما يسهل تجنيد العملاء.
وأكد أن "حزب الله" يرفض الاعتراف بأن بيئته مخترقة، وأن معظم العملاء اُكتشفوا من خلال فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي وليس عبر أجهزته الاستخباراتية، مشدداً على أن إسرائيل تمتلك معلومات دقيقة عن كل فرد مرتبط بـ"حزب الله"، مما يدل على وجود اختراق كبير لا يزال مستمراً، ويعزز قدرتها على استمرار تنفيذ عملياتها بدقة تامة، مشيراً إلى تحديات كبيرة يواجهها الحزب في حماية مراكز وأفراده.
أما بالنسبة إلى احتمال وجود عملاء سوريين قادمين من مناطق معادية للحزب نتيجة تدخله في الحرب السورية، فيؤكد قهوجي أنه ليس مستغرباً أو مستبعداً، لكن هذا لا يعني أن هؤلاء هم المسؤولون عن كل الأحداث، نظراً إلى أنهم لا يمتلكون القدرة على دخول مقار الحزب أو الوصول إلى بياناته الحساسة.
الوحدة 133
وعلى الضفة الأخرى أيضاً يبدو أن إيران و"حزب الله" حاولا تجنيد عملاء وجواسيس إسرائيليين لتنفيذ أعمال أمنية، فقد كشفت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أخيراً عن اعتقال إسرائيلي جندته الاستخبارات الإيرانية للقيام بمهمات أمنية وجمع معلومات، وأفاد جهاز الأمن العام الإسرائيلي (شاباك) بأن طهران نجحت خلال الحرب على قطاع غزة في تجنيد رجل الأعمال الإسرائيلي موتي ميمان (72 سنة) من بلدة عسقلان، للتعاون مع "الحرس الثوري" وأجهزة الاستخبارات التابعة له.
ولا يعتبر ذلك عملاً إيرانياً خالصاً، إذ تتهم إسرائيل "حزب الله" بتكوين وحدة لتجنيد الجواسيس، وتعد الوحدة 133 التابعة للحزب مسؤولة عن تجنيد عناصر داخل إسرائيل، بعد أن حلت محل الوحدة 1800 التي قادها خليل خاريف بنجاح في تجنيد فلسطينيين لتنفيذ هجمات مسلحة.
وتتولى الوحدة 133 اليوم مهمة أوسع نطاقاً، فلا تقتصر عملياتها على إسرائيل فقط بل تمتد إلى جميع أنحاء العالم وخصوصاً في أوروبا، ووفقاً لموقع "واي نت" الإسرائيلي فإن الوحدة تتعاون مع مهربي مخدرات في لبنان لتهريب المتفجرات إلى إسرائيل والضفة الغربية.
ويوضح مسؤولون أمنيون أن هناك اتصالات مباشرة بين عصابات الجريمة الإسرائيلية والوحدة 133 تغري الإسرائيليين بعروض مالية كبيرة وإمدادات بالأسلحة، وحذر الـ "شاباك" من اتصالات قام بها عملاء إيرانيون مع إسرائيليين عبر ملفات تعريف مزيفة، مشدداً على أن الاستجابة لهذه الأساليب قد تشكل تهديداً كبيراً لأمن إسرائيل.
ووفقاً لـ "مركز ألما للأبحاث والتعليم" المتخصص في الشؤون الأمنية على الحدود الشمالية لدولة الاحتلال، فإن مهمة الوحدة 133 تتمثل في "تعزيز البنية التحتية داخل إسرائيل عبر تهريب الأسلحة إلى مشغليها بالتعاون مع جهات خارجة عن القانون في لبنان".
وفي حادثة وقعت قبل أشهر فإن الـ "شاباك" اعتقل شاباً إسرائيلياً يبلغ من العمر 21 سنة بعد أن حصل على أموال في مقابل ترك دمية مقطوعة الرأس أمام منزل في وسط إسرائيل، إضافة إلى تنفيذ مهمات أخرى.