لا انسحاب إسرائيليّاً كاملاً…

حين وقفت مورغان أورتاغوس على منبر قصر بعبدا تؤكّد التزام بلادها “بشدّة” بموعد 18 شباط، “موعد إعادة الانتشار عندما تُنهي قوات الجيش الإسرائيلي انسحابها، وبالطبع ستأتي القوات المسلّحة اللبنانية لتُعيد انتشارها”… كانت تعرف جيّداً أنّ إسرائيل تتمسّك بخمس نقاط ترفض الانسحاب منها، وهو ما أبلغته إلى الإدارة الأميركية منذ إعلان اتّفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني من العام الماضي. وهو ما أعادت وكرّرته على مسامع المسؤولين الأميركيين مع تمديد مهلة الانسحاب الكامل حتّى 18 شباط المقبل، على ما تقول مصادر دبلوماسية معنيّة، بعدما تراجعت في مطالبها إلى الاحتفاط بنقاط خمس. وراهناً، يقال إنّ لائحة المطالب تقلّصت إلى نقطتَيْن فقط.

 

بالمعنى العسكري، قد يكون الفرق بين موعدَي 18 و28 شباط، الموعد الجديد الذي تطالب به إسرائيل، تفصيلاً بسيطاً، لا يبدّل كثيراً في الجوهر، إلّا إذا كانت إسرائيل تناور لكي تحتفظ ببعض النقاط بشكل دائم. ولكن بالمعنى السياسي قد يكون كلّ الفرق بالنسبة للحكومة اللبنانية المنكبّة على صياغة البيان الوزاري، الذي يفترض أن يُنزع منه تعبير مقاومة، لتكون الدولة هي صاحبة السلطة في فرض السيطرة على كامل الأراضي اللبنانية. فماذا لو وقفت الحكومة اللبنانية أمام البرلمان طالبة الثقة فيما لا تزال السيادة منقوصة ومنتهكة؟!

سؤال يختصر مشهديّة الاتّصالات التي تتولّاها رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة مع الإدارة الأميركية، للدفع باتّجاه إلزام إسرائيل باحترام موعد 18 شباط، المؤجّل من 26 كانون الثاني، فيما إسرائيل تلجأ من جديد إلى لعبة المناورة والضغط بحجّة أنّ لبنان لم ينفّذ تعهّداته، للدفع باتّجاه تأجيل الموعد مرّة جديدة. الأمر الذي سيحرج السلطة اللبنانية، بأركانها الثلاثة:

  • الرئاسة الأولى مع تعهّد الرئيس جوزف عون في خطاب القسم بالدعوة إلى “مناقشة سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بما يمكّن الدولة اللبنانية، أكرّر الدولة اللبنانية، من إزالة الاحتلال الإسرائيلي وردّ عدوانه عن كلّ الأراضي اللبنانية”.
  • الرئاسة الثانية التي أدارت مفاوضات وقف إطلاق النار والاتّفاق التنفيذي للقرار 1701، ثمّ اتّفاق تمديد مهلة الانسحاب الإسرائيلي.
  • الرئاسة الثالثة مع إعلان الرئيس نوّاف سلام بعد تسميته أنّ “إعادة الإعمار ليست وعداً بل التزام. وهذا يتطلّب العمل الجادّ على التنفيذ الكامل للقرار الأممي 1701 وكلّ بنود اتّفاق وقف إطلاق النار، وفرض الانسحاب الكامل للعدوّ من آخر شبر محتلّ من أراضينا”.

هل فعلاً تريد واشنطن هذا الانسحاب؟

ينقل لبنانيون عن مسؤولين أميركيين في البيت الأبيض كلاماً واضحاً وجليّاً إزاء هذه المسألة، مفاده أنّ “الإدارة الأميركية مصمّمة على تنفيذ اتّفاق وقف إطلاق النار بشكل كامل وشامل، مع تسجيل تحفّظ أساسي يتّصل بالمهل الزمنية التي وضعت للتنفيذ. إذ ترى واشنطن أنّ مهلة الستّين يوماً لم تكن بالأساس كافية وعمليّة، ولذا كان التمديد الأوّل مبرّراً، وقد يتكرّر لأنّ المطلوب التنفيذ الدقيق للاتّفاق، أي الانسحاب الكامل وسقوط ذرائع بقاء الإسرائيلي في الجنوب”.

يضيف هؤلاء أنّ لدى المسؤولين الأميركيين معطيات تفيد عن عودة تحرّكات لعناصر من “الحزب” في منطقة جنوب الليطاني، كأنّها من باب استعادة بعض المواقع السابقة، فتعرّض الاتّفاق لانتكاسة غير منتظرة. هذا مع العلم أنّ واشنطن تثق كامل الثقة، وفق هؤلاء، بالمؤسّسة العسكرية اللبنانية أكثر من ثقتها باليونيفيل لتنفيذ الاتّفاق.

الانسحاب الكامل لتثبيت الحدود

لهذا يقول هؤلاء إنّه على الرغم ممّا يتسرّب عن رفض الإدارة الأميركية لبقاء إسرائيل في الجنوب، وتحديداً في نقاط خمس هي جبل بلاط، وتلّة اللبّونة، وتلّة العزّية، وتلّة العويضة، وتلّة الحمامص، فإنّ المسؤولين الأميركيين يقولون صراحة إنّ تنفيذ الاتفاق من الجانب اللبناني هو شرط أساسي لكي تضغط واشنطن على إسرائيل وفرض انسحابها، لأنّ الإدارة الأميركية تريد التطبيق الكامل من كلتا الجهتين، للانطلاق في مفاوضات تثبيت الحدود البرّية وحلّ النقاط العالقة والعمل على إنهاء حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل.

تحمل هذه النقاط الخمس أهميّة استراتيجيّة كبيرة، بسبب موقعها الجغرافي والارتفاع النسبي الذي تمنحه للمسيطر عليها. تتيح التحكّم في الرؤية ومراقبة المناطق المحيطة، وهو ما يسمح بمراقبة التحرّكات العسكرية والمدنية بسهولة. وتعني السيطرة على هذه التلال القدرة على رصد التحرّكات، الأمر الذي يتيح ميزة تكتيكيّة كبيرة في العمليات العسكرية.

تتمتّع أيضاً بميزة دفاعية، إذ توفّر التلال والمرتفعات حماية طبيعية، فيصبح من الصعب شنّ هجمات مباشرة عليها. وتتيح الفرصة لإنشاء مواقع دفاعية قويّة، مثل الخنادق والتحصينات، لحماية القوات المتمركزة.

الحمامص واللبّونة

بالتفصيل، يرى بعض المتابعين أنّ تلّتَيْ الحمامص واللبّونة هما الأكثر أهمّية على المستوى الاستراتيجي، وقد تكونان هدف المناورة الإسرائيلية الجديدة من خلال تمسّكها بعدم الانسحاب. إذ تشرف الأولى على القطاع الشرقي، فيما تشرف الثانية على القطاع الغربي حيث يتمكّن الممسك بها من رصد كامل المساحة الممتدّة من صور حتّى صفد.

بالتوازي، يُنقل عن مسؤولين أميركيين قولهم إنّ اللجوء إلى قوات اليونيفيل ليحلّوا محلّ الإسرائيلي في هذه النقاط الخمس، غير مقبول أميركياً، كذلك إمكانية الاستعانة بشركات أمنيّة أميركية، وتفضّل واشنطن أن يتولّى الجيش اللبناني هذه المهمّة بعد التأكّد من خلوّ منطقة جنوب الليطاني من كلّ وجود لـ”الحزب”.

مع ذلك، يرى بعض المعنيّين أنّ الذريعة التي تختبىء خلفها إسرائيل، لتعطيل الانسحاب، غير مقنعة، ذلك لأنّ لجنة الإشراف على تطبيق الاتّفاق تنقل كلّ طلبات إسرائيل ويتمّ تبليغ الجيش بمضمونها ليحصل التفتيش. ولهذا لا يمكن الادّعاء أنّ الجيش لا يقوم بالمهامّ المطلوبة منه، بل هو بدوره يرفع لائحة مطالب عن استعداده للانتشار جنوباً، لكنّ اللجنة لا تتجاوب مع مطالبه. بناء عليه، يرى هؤلاء أنّ الكلام عن تمديد جديد للمهل هو موجّه للداخل الإسرائيلي، من باب طمأنة المستوطنين الذين يستعدّون للعودة.

في السياق ذاته، يرى متابعون أنّ حملة الضغوط التي تمارسها إسرائيل لها أهدافها، التي تتجاوز البقاء داخل الأراضي اللبنانية، كونها تدرك جيّداً أنّ واشنطن لن تسمح لها بالاحتفاظ بأيّ “جيب عسكري”.

هنا تنقسم الآراء إزاء الأهداف الإسرائيلية: البعض يرى أنّها تطمح إلى تعديل قواعد عمل اليونيفيل من باب منحها هامش أوسع من الحركة، فيما البعض الآخر يرى أنّ عين الحكومة الإسرائيلية هو على الداخل الإسرائيلي لترويج نتائج الحرب بمنزلة انتصار يمكن توظيفه انتخابياً، خصوصاً أنّ حرّية الحركة الممنوحة لإسرائيل من جانب الإدارة الأميركية، يعوّضها عن كلّ وجود عسكري داخل الأراضي اللبنانية. أما البعض الثالث، فيذهب بتقديره إلى حدّ الاعتقاد أنّ إسرائيل ترفع من سقف مطالبها جنوب الليطاني، لتنقل “الكماشة” إلى شمال الليطاني.

وفق المعلومات، ستجتمع لجنة الإشراف اليوم الجمعة، قبل عودة مورغان إلى بيروت، ليُبنى على الشيء مقتضاه. هذا مع العلم أنّ السلطات اللبنانية لم تتبلّغ حتى الساعة أي موعد رسمي لعودة الموفدة الأميركية، ولا أي موقف رسمي من إدارة بلادها بخصوص رفض إسرائيل الانسحاب من الجنوب باستثناء ما أعلنه الرئيس نبيه بري بعد لقائه رئيس لجنة مراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار الجنرال الأميركي جاسبر جيفرز، بحضور السفيرة الأميركية ليزا جونسون.

أما الجديد، فهو الكلام عن تأجيل الانسحاب الإسرائيلي إلى ما بعد 23 شباط، وهو الاستحقاق المرتبط بتشييع السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، في محاولة من العدو للتضييق على المشيّعيين وقيادة “الحزب” والحؤول دون انفلاش جماهيره بين مدينة كميل شمعون الرياضية وطريق المطار حيث سيُدفن نصرالله، لا سيما وأنّ “الحزب” يسعى لتوظيف هذه المناسبة، على قاعدة أنّ الانكسار العسكري، لا يعني انكساراً شعبياً أو سياسياً.

مساء، أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري، أنّ “الأميركيين أبلغوني أنّ الاحتلال الاسرائيلي سينسحب في 18 شباط من القرى التي ما زال يحتلها، ولكنه سيبقى في 5 نقاط وقد أبلغتهم باسمي وباسم رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام رفضنا المطلق لذلك”.

لفت إلى “أنني رفضت الحديث عن أي مهلة لتمديد فترة عمل الانسحاب، ومن مسؤولية الأميركيين أن يفرضوا ذلك وإلا يكونوا قد تسببوا بأكبر نكسة للحكومة”. وقال “إذا بقي الاحتلال فالأيام بيننا، وهذه مسؤولية الدولة اللبنانية والجيش يقوم بواجبه كاملاً في جنوب الليطاني، أما في ما يخص شمال الليطاني فهذا الأمر يعود للبنانيين ولطاولة حوار تناقش استراتيجية دفاعية”.