المصدر: نداء الوطن
الكاتب: نوال نصر
السبت 9 آذار 2024 08:19:28
هو الصوتُ الشيعي الآخر الذي لم ينصع يوماً إلى جبروت الثنائي في طائفته، فأُجبر على الإبتعاد عن دارٍ ومنصبٍ وجنوبٍ وبلدةِ صباه وأحلامه ويقظتهِ قلاويه. خرج ولم يعد «فكيف يعود إلى منطقة مدججة بالسلاح ما زال يحكمها من أجبروه بالسلاح على الرحيل». حدث هذا قبل ستة عشر عاماً. مرّ الكثير على سماحته. نُعت بالعمالة. عُزل. أُقصي. وتمّ الغدر به لكنه يستمرّ الصوت الهادئ الهادر الذي أزعج من ظنوا أنفسهم أقوياء جداً بترداده ما أصبحت لازمة على لسانِهِ: الدولة ثم الدولة ثم الدولة. العلامة السيّد علي الأمين، لم تنهكه لا السنون ولا التحديات ولم يرهبه سلاح. هو إبن بيئةٍ صنّفت الآخرين كما شاءت فأصبح كل صوتٍ آخر عميلاً. فماذا عن رحلة من كان الصوت الآخر وصمد؟ ماذا عن محطاتٍ من محطاتِ عمر المرجع الديني، مفتي صور المخلوع من الثنائي، العلامة السيّد علي الأمين؟
إلتقيناه في منطقة يشعر فيها بالأمان «بعيداً عن هيمنة الثنائي».هو يسكن في الحازمية، في شقّة مطلة على «خضارٍ» كثير. يتابع السيّد بالقلب ما يحدث عند الحدود. قلقٌ جداً يبدو على جنوبيين فقدوا البيت والأمان ويفقدون الفلذات. صعبٌ هو الموت. والحرب ليست نزهة. والخراب يُدمي القلب. ما يراه السيّد اليوم يُشبه ما رآه في حرب تموز 2006. رأى يومها البلاد تخوض حرباً عبثية «كنتُ ضدّ حرب تموز وآثارها» ويقول: «طلبتُ يومها من الرئيس فؤاد السنيورة تعزيز إرتباط المواطن بالدولة. قلتُ له فلتوزع الدولة المساعدات التي تمنحها الدول العربيّة على المنكوبين من حرب تموز بدل أن توزعها الأحزاب التي كانت سبباً لتلك الكارثة. قلتُ له بالحرف: حين تعطي الأحزاب (الثنائي) المال ليوزعوه على الناس فإنك تعيد مجدداً تعزيز تسلطهم على الناس». ويستطرد: «أتذكر جيداً تلك الحادثة، يوم زرت مجلس الوزراء والتقيت فؤاد السنيورة الذي قال لي: حوّلتُ اليوم الى الجنوب مبلغ 387 مليون دولار. أجبته: انت من حولته يا دولة الرئيس؟ أجابني: نعم. قلت له: لا، من دفع المبلغ هي الأحزاب التي وزعته بدل أن يتولى ذلك عناصر الجيش اللبناني. عليكم أن تربطوا المواطنين بالدولة وليس بالأحزاب».
كل الحقّ مع السيّد الأمين. لكن، قبل أن نتابع مع اخطاء اقترفت كان شاهداً عليها فلنعد معه الى البدايات. والبداية ما هو اللقب الأحبّ الى قلبه: المفتي؟ يجيب: «وليس لمنصب الإفتاء معنى سوى إسم لصاحبه يُقال، وما للإسم شأن في المسمى، وما بالإسم يُكتسب الكمال. كمال المرء في علمٍ ودينٍ وأخلاقٍ بها تسمو الرجال». ويستطرد: «نحن في بيئة المعارضة قد لا تكلّف فقط المنصب بل الحياة أيضا». ولد السيّد في منطقة قلاويه في قضاء منطقة بنت جبيل، في أسرة محافظة «جدي كان من المبلغين الدينيين ونحن عائلة الأمين عموماً من العلماء. والدي محمد الأمين ووالدتي من آل مروة إسمها زينب. وأنا الرقم واحد بين الأولاد. إنتقلنا الى بيروت ودرست في مدرسة المريجة وبرج البراجنة وثانوية إبن سينا. وعشت في بيئة لم تشكُ يوماً مذهبياً وطائفياً. كنا ندخل الى مقاعد الدراسة، علي ومحمد وجورج والياس، على وقع النشيد الوطني. وأساتذتنا كانوا من آل زيادة ونجم والخطيب. كانت الضاحية في يوم ما مرتعاً للعيش المشترك. كنا نتزاور ونتجاور ونتعايش».
بين العراق وإيران
لم يكن تمحّصه في الدين صدفة «بيئتي مرتبطة بعلماء دين وكنت أتأثر بوالدي وجدي وهما يقرآن عظات ويقيمان مجالس حسينية. وحين أنهيت دراستي الثانوية في السبعينات إنتقلت الى العراق ودرست الدين. ويوم قررتُ العودة الى بيروت كانت الثورة الإسلامية في إيران قد انتصرت. ويوم كنت في النجف كان الإمام الخميني موجوداً هناك أيضا. وهكذا أحببتُ أن أذهب الى إيران عام 1980 ودرّستُ فيها الفقه والأصول لمجموعات من الطلاب، بقيتُ هناك ثلاثة أعوام عدتُ بعدها عام 1983 الى لبنان».
كانت الدراسة الدينية تختلف في العراق عما كانت في إيران «إختلف المنهج التعليمي الديني في عمقه وسعته خصوصاً ان الدراسة في إيران كانت بدأت تتأثر بالوضع السياسي. بينما كانت الدراسة الدينية في العراق والمرجعية الدينية عموماً بعيدة عن الإنخراط في الأعمال السياسية».
إعتقل السيّد مرات من البعثيين ويتذكر «كانت هناك نزاعات بين الحوزة الدينية والنظام البعثي الذي كان يتهم الحوزة الدينية بأعمال سياسية وحزبية. إعتقلت في ما سمي أحداث الأربعين خلال زيارة للإمام الحسين. كنا نسير مشياً الى منطقة كربلاء وحدثت الإنتفاضة الشعبية فاعتقلنا عشرات الألوف ونقلونا من كربلاء الى بغداد حيث سجنت نحو أسبوعين».
من لبنان الى العراق الى إيران ومن ثم الى لبنان... كيف رأى لبنان في العام 1983 وكان حزب الله في بدايات نشأته؟ يجيب: «رأيتُ حرباً وإنقساماً طائفياً وإحتلالاً إسرائيلياً للجنوب. كانت الصورة قد اختلفت تماماً. إستلمتُ معهد الشرع الإسلامي في منطقة حيّ السلم وسعيتُ الى الدعوة مجدداً للتقارب بين الاديان. في تلك المرحلة، بدأت ولادة أحزاب دينية مرتبطة بالرؤية الإيرانية التي أصبحت الرؤية الجديدة على الساحة الشيعية التي أدّت الى نزاعات داخل البيت الواحد. وحصل آنذاك صراع بين فريقي «حزب الله» وحركة امل».
الروابط المذهبية
كنت قريباً من أمل في حينها؟ يجيب: «كنت أكثر قرباً من أمل باعتبارها كانت تحمل الرأي الآخر وإرث موسى الصدر الذي أحد ملامحه هو مشروع الدولة، بينما الطرح الآخر كان مرتبطاً بالرؤية الإيرانية الذي أصبح يطالب بما يسمى الجمهورية الإسلامية. أنا كنت من اوائل الرافضين لذلك. إنه مشروع مرتبط بإيران ونحن شعبنا مختار للعيش المشترك. رفضتُ الرؤية الإيرانية للساحة اللبنانية منذ ثمانينات القرن الماضي واستمريت حتى اللحظة على هذا الرفض».
لكن، هل ولادة «حزب الله» أتت قيصرية ام سهلة؟ يجيب: «كان لبنان ساحة، الدولة فيه ضعيفة والإنقسام فيه كبير، كما لا يزال اليوم. وكان السلاح ينتشر بين أيدي التنظيمات المسلحة. يعني إتفاق الطائف لم يكن موجوداً. وحتى، بعدما وجد، لم تتمكن الدولة من إنتزاع كل السلاح الموجود. وكانت إيران تبحث عن أدوات لثورتها الجديدة ونظامها الجديد في المنطقة من اجل الترويج لمشروعها، لذلك استخدمت الروابط المذهبية الموجودة بين الشيعة في لبنان وإيران. ويومها بعثتُ برسالة الى الإمام الخميني مفادها أننا لسنا بحاجة الى أحزاب جديدة تقسّم الطائفة».
إستشعرت الخوف على الطائفة منذ ذاك الوقت؟ «أيقنت بعد أن اشتد الصراع بين «حزبُ الله» وحركة أمل في حينه أن الإنقسام داخل أي طائفة سيؤدي حتماً الى صراعات أخرى مع المكونات الأخرى في الوطن. لذلك قلت وكررت أن ما يجمعنا مع كل اللبنانيين هو مشروع الوطن الواحد والدولة الواحدة الوحيدة التي نحتكم إليها ونرجع إليها. وكم قلت إن روابط المذاهب والأديان لا يجوز أن تكون على حساب الأوطان. صحيح أننا نرتبط مذهبياً بالمرجعية الدينية لكن الروابط الدينية لا تكون على حساب الوطن. فلتكن كما إرتباط المسيحيين بالفاتيكان دينياً وثقافيا لا سياسياً».
حين انطلق الصراع بين حزب الله وأمل أخذت خيار امل؟ يقاطع مجيباً: «أخذت ذلك لأن أمل كانت تشكل الرأي الذي يؤمن بالمشروع الوطني مشروع الدولة. إضافة الى رفضي للقتال وسفك الدماء».
لكن الصراع إنتهى بتسوية تمثلت بولادة الثنائية الشيعية؟ يجيب: «منذ التسعينات لم يعد هناك رأي آخر في الطائفة وإنما أصبح من كان مختلفاً وجهاً آخر. ما معناه أنه أصبح الثنائي واحداً. أصبحت أمل الوجه الآخر وليس الرأي الآخر للحزب. تبدلت امل أما أنا فبقيتُ على مواقفي رافضاً لبقاء السلاح خارج مشروع الدولة والهيمنة على الجنوب وبيروت ورفضتُ أيضا حرب 2006 ورفعتُ صوتي عالياً. رفضتُ دائماً مشاريع الحرب وإطلاق الصواريخ على فلسطين المحتلة من لبنان وكل الفصول التي تُقحمنا في حربٍ غير متكافئة. كنت من القائلين إننا جزء من العالم العربي فإذا اختار هذا العالم الحرب نكون جزءاً منه أما أن نختار وحدنا الحرب فهذا غير منطقي لأنه يجعلنا في حرب غير متكافئة، تأتي بالويلات على شعبنا من دون أي مكاسب. بقيتُ أطالب بصعود الجيش اللبناني الى الجنوب وانتشاره مع وجود قوات الطوارئ الدولية».
إحتلال دار الإفتاء
هذا كان لسان حالكم دائما، لكن هل لقي هذا الكلام قبولاً لدى الطائفة الشيعية التي أصبحت أسيرة ما يريده «الثنائي»؟ يجيب: «كان مشروع الدولة ورفض الحرب الرأي الغالب في الطائفة الشيعية. أراد الشيعة مشروع الدولة أيضاً. لكن، عندما وقعت الحرب واشتدّت سطوة الأحزاب والثنائي إرتبطت مصالح الناس بمن يسيطر عليهم لذلك إنخفض هذا الصوت ومنع أي صوت آخر ينادي بمشروع الدولة ودمج السلاح الخارج عن الدولة بمشروع الدولة. من هنا، ضعف هذا الصوت لأن الدولة لم تدعم الرأي المدافع عنها إنما دعمت مقهورة ومجبورة الرأي الذي أسقطها وهيمن عليها».
يتكلم العلامة علي الأمين بألم ويتابع: «ووُجهنا بمضايقات شتى. لم يعجبهم أننا ضدّ حالتهم وتأسيسهم الى فرقة طائفية. واستمرّت الدولة ضعيفة».
إستلم الإفتاء في صور وجبل عامل في العام 2000 ويقول: «كنت رئيس المعهد الشرعي في حي السلم للدراسات الدينية ثم انتقلت إلى الجنوب وأسسنا معهد الإمام الصدر للدراسات الشرعية وبقيت مدرساً حتى العام 2000. أتخذ في حينه قرار تعييني مفتياً بعدما توفي المفتي الشيخ نجيب سويدان. عينت مكانه وبقيت حتى العام 2007. كانت تلقى وجهة نظري الإعتراضية ورؤيتي تأييداً في الأوساط الشعبية لكن، كما قلت، هؤلاء (القوى المهيمنة) كانوا يرفضون الرأي الآخر ودعوتي الدولة أن تكون المرجعية. في السابع من أيار رفضت أيضاً إجتياحهم بيروت التي كان لها غطاء ديني. وكان رفضي واضحاً وصريحاً فاستغلوا هذه المواقف. كانوا يعتبرون أن رفضي للإجتياح والحرب يسلبهم الغطاء الديني من المؤسسة الدينية. والمرجعيات الدينية التي كانت موجودة في حينها لم تتكلم شيئاً عن سفك الدماء في بيروت. السيد علي الأمين وحده إعترض وتكلم ودعا الى الوحدة الوطنية والإسلامية. عندئذ، بعد أسابيع من السابع من أيار، بعدما اسقطوا بيروت والحكومة والدولة ذهبوا واحتلوا دار الإفتاء في صور بقوة السلاح أيضاً. أنا كنت في بيروت أما أولادي وعائلتي فكانوا في دار الإفتاء. دخلوا بقوة السلاح وشهروه على اولادي».
هل سبق ذلك تهديدات مباشرة؟ يجيب: «طبعاً، جاءني بعض المفتين من المجلس الشيعي وقال لي أحدهم: يطالبك الرئيس نبيه بري بألّا تتكلم عليه وعلى «حزب الله». تكلم في أمور أخرى وإلا فسيأخذون قراراً في حقّك. قلت له: لديكم مفتون من الناقورة الى العريضة، ومن الشرق الى الغرب، لم يأخذوا أي موقف من كل هذه القضايا. أنا اخذتها لأنني اراها وظيفتي الدينية والوطنية. أخذتها قبل لقب المفتي وسآخذها بعده. عرفتُ في حينه انهم سيأخذون قراراً بي لكني قلت ان قراراتهم لا تعنيني وواجبي أن أمنع إستخدام السلاح وإسقاط الدولة. وحصل ما حصل».
قُبع المفتي من دار الإفتاء في صور ومنذ ذاك الحين لم يعد الى الجنوب إلا مرة واحدة عام 2016، بحماية من الدولة، يوم توفي شقيقه: «ذهبت وشيعت أخي وعدت. ولم اتمكن حتى اليوم من استعادة مكتبتي التي لا تزال محتجزة. حتى وصايا الناس محجوزة ولم اتمكن من إيصالها إليهم». نسأله: هناك من يقول أنك تبالغ ويمكنك زيارة الجنوب من دون ان تتعرض الى أذى؟ يجيب: «أنا اخرجت بقوة السلاح والسلاح الذي أخرجني لا يزال مسيطراً. السلاح الذي أخرجني واخرج غيري وقتل من قتل لا يزال موجوداً في الجنوب فكيف اعود؟».
منطق المحاصصة
يُقال أنك كنت كبش محرقة حتى من الحلفاء الذين تخلوا ايضاً عنك؟ يجيب: «أقول ان عدم دعم الرأي الآخر داخل الطائفة الشيعية كان من اجل منطق المحاصصة في السلطة بين قوى الأمر الواقع التي أسقطت الدولة بقوة السلاح في السابع من أيار وبين فريق 14 آذار. تقاسموا المحاصصة وكان من شروطها إقصاء الرأي الآخر وإبعاده. تحقق ذلك فأمسكوا بزمام الأمور». ويستطرد: «بعد الإبعاد والإقصاء بقيتُ في بيروت وكان يأتيني أشخاص من الجنوب لزيارتي أسبوعياً. ودرّستُ في مكتبي وبيتي بعض الطلاب وبقيتُ على هذا النحو وكانت القوى الموجودة في السلطة تعد بانها ستحلّ هذه القضية التي نحن فيها. لكن، رأيت بعض الرؤساء يذهبون الى الجنوب. قلتُ لهم: يا دولة الرئيس ويا فخامة الرئيس خذونا نحن من أبعدنا معكم. طبعا لم يفعلوا. هم ذهبوا ليوحوا للعالم العربي والخارجي أنهم يسيطرون على الجنوب. قلتُ لهم: كيف تسيطرون على الجنوب وغير قادرين على إعادة مواطن الى الجنوب؟ أوحوا بالإستقرار في الجنوب وبوجود قوات طوارئ وجيش وهم لا يمكنهم مصادرة شحنة سلاح». يتمهل هنا ويستطرد بسؤال: «هل صادرت قوات اليونيفيل منذ القرار 1701 أي قطعة سلاح؟ فمن أين كل السلاح الموجود اليوم مع العلم بان القرار 1701 منع السلاح جنوب الليطاني؟ نحن طردنا من الجنوب بقوة السلاح الذي كان موجوداً أمام عيون الجيش والدولة وقوات الطوارئ».
يؤلم العلامة الأمين اليوم ما يتابعه من أحداث في الجنوب اللبناني و»كل ما يجري لأهلنا من قتل وتشريد وإبعاد ونخشى أن تزداد الأمور سوءاً لكن لا يمكننا فعل شيء لأن من بيدهم الحلّ والربط لا يستمعون الى رأي آخر».
هل قرار الحل والربط بيد حزب الله ام ابعد من حزب الله؟ يجيب: «لا شك أن لحزب الله رأياً ومن كانت مرجعيته في نهاية المطاف إيران. هو بلا شك يجسد الصورة أما الرؤية فمن قبل إيران. من هنا نرى أن ما يجري على ساحة الجنوب يرتبط بالرؤية الإيرانية. أما حزب الله فيتحمل المسؤولية».
الدور الديني والإنساني
اتهام السيد الأمين بالعمالة كم آلمه؟ يجيب «فوجئت بذلك. لم أكن أتوقع ممن ربينا بعضهم ويعرفون كيف واجهنا الإسرائيلي في الجنوب في العام 1973 ان يفعلوا ذلك. لم أرتضِ الخروج من الجنوب يوماً إبان الأحداث. لم أترك أهلي وناسي في العام 1996 إبان حرب عناقيد الغضب. عشتُ الحروب ومواقفنا إستمرّت واضحة: نريد الدولة. وسنظلّ نطالب بالدولة. وخلافي مع حزب الله هو قيامه بأعمال تتنافى مع الدولة. وطالما نادينا بانخراط حزب الله بمشروع الدولة. خلافي معه ليس على جهد المجاهدين إنما حول إدارة الأمور، لذلك فوجئت حينما عدت من مؤتمر ديني وقُدمت دعوى قضائية ضدي بتهمة العمالة. هي لا تزال قائمة حتى اليوم لكن القضية لم تُحرك منذ عامين. كان مطلوباً من القضاء رفض هكذا دعوى ليس ضدي فقط. هم رفعوا دعوى أيضاً ضدّ المطران موسى الحاج. دورنا ديني وإنساني لا سياسي. عندما نُدعى الى مؤتمرات تضم أدياناً مختلفة، أو نقوم باعمال إنسانية، لا نعير إهتماماً للصراعات. إنهم يستغلون هكذا مسائل من اجل أن يُظهروا لبيئتهم وجماعاتهم بأنهم في طريق النضال لمواجهة إسرائيل بينما نحن وظيفتنا دينية وهدفنا نشر ثقافة الحوار والمحبة والتلاقي بين كل المكونات البشرية في وطننا وخارج وطننا».
بعد كل ما جرى ويجري، هل يستشعر العلامة الأمين تململاً في صفوف البيئة الشيعيّة؟ يجيب: «بلا شك، هناك تبدلات لدى القاعدة الشعبية في البيئة التي تسيطر عليها القوى الثنائية، وهذا ما كشفته الإنتخابات النيابية الأخيرة، وذلك على الرغم من سيطرتها بالسلاح والمال ومرور كل خدمات الدولة عبر الثنائي الشيعي. مدرسة المواطن الشيعي وطبابته وتعليمه ووظيفته وحتى فرص عمله كلها مرتبطة بقوى الأمر الواقع. مع ذلك، في الإنتخابات النيابية لم تنتخب الأكثرية. نحو 60 في المئة من الناخبين، او أقل بقليل، لم يقترعوا ولو كانوا حزبيين لما استطاعوا ذلك. وهذه الأكثرية الصامتة تكشف عدم رضاها عن أداء وممارسات الثنائي. وهذا ما لمسناه أيضاً بعيد حركة 17 تشرين. كثير من الجنوبيين طالبوا بمشروع الدولة ودولة المؤسسات والقانون لا الهيمنة التي يمارسها الثنائي وغيره».
ماذا عن السيد علي الأمين اليوم؟ هل يلتقي سياسيين؟ يجيب: «نلتقي في المناسبات. يوم أقيمت الدعوى ضدي جاءني عدد منهم واستنكروا بينهم الرئيس فؤاد السنيورة» وهل حصل إتصال بينه وبين نبيه بري بعد إبعاده بقوة السلاح عن دار الإفتاء في صور؟ يجيب: «أبداً». ويشير الى كتاب ضمّ فيه «محطات شعرية» كتبها بينها محطة توجه فيها الى نبيه بري وعنونها: أين الخليل؟: أين الخليلُ الذي كنتُ أمنحهُ قلبي وأعطي لهُ روحي إذا طلبا أحسنتُ صحبتهُ في كلِ نازلةٍ وما ارتضيتُ لهُ إلا العُلا رُتبا، حتى إذا قويت في الحكم شوكته بغى علينا وسَلّ السيف وانقلبا، قد كنتُ أحسبهُ في النائباتِ أخاً فكان للنائبات العونَ والسببا». هذا مقطع مما كتب الى من كان له خليلاً.
لستُ العاشق الوحيد
هل حصل أي إتصال بينه وبين السيد حسن نصرالله؟ يجيب: «نعم، حصل إتصال يوم دعوت أمل وحزب الله الى إقامة مؤتمر والإستماع الى الأصوات الأخرى في الطائفة الشيعية. قلت للسيّد نصرالله يوم زرته: نحن في سفينة واحدة لذلك من المطلوب إجراء حوار حول المستجدات ومشروع الدولة والرأي الآخر. قلت له يجب الإستماع الى آراء الجنوبيين». يصمت السيد الأمين قليلاً فندرك أن لا جواب أتاه من السيد نصرالله. يعود ليتكلم فيقول: «كانت لديّ خطوات لجمع القيادات في الطائفة. جمعتُ نبيه بري مع محمد حسين فضل الله. إلتقيا في صور». ويستطرد: «إلتقيتُ بري مجدداً بعد أحداث السابع من آب مرة واحدة فقلت له: هذا الجنوب الذي تعمّر قبل 2006 ها هو يتدمّر فما هو موقفك؟ أجابني: «لستُ العاشق الوحيد». قصد أنه ليس الوحيد المسؤول عن الجنوب».
يُكرر السيّد علي الأمين «أن الرأي الآخر الذي قلنا يجب مأسسته تم إقصاؤه وفق منطق المحاصصة». هنا نسأله: طبيعي جداً أن تجري محاولات لإقصاء الرأي الآخر (كما فعل حزب الله مع أمل) لكن ماذا عن مسؤولية من يمثلون حتى الآن الفكر الآخر؟ يجيب: «يحتاج الفكر الآخر الى مقدرات وإمكانات من اجل مواجهة الرؤية الإيرانية والمشروع الإيراني. فكيف تريدونه أن ينتشر؟ بمجرد الفكر يعني؟ ليس بالفكر وحده يحيا الإنسان».
ماذا عن المجلس الشيعي الأعلى؟ يجيب: «لا يمكن أن يكون هناك رجل دين في منصب وموقع من دون رضى قوى الأمر الواقع. المجلس الشيعي هو نتيجة هيمنة قوى الأمر الواقع على الدولة. ومن يهيمن على الدولة طبيعي أن يفعل ذلك أيضا على المجلس الشيعي والمؤسسات الدينية. هم لا يقبلون أي رأي آخر من أي شخص فكيف يقبلون ذلك من مؤسسة شيعية؟ لهذا أقول لا يأتي الى المجلس إلا من كان موالياً لهم. المرجعيات الدينية كلها إبتداء من إيران مروراً في العراق وصولاً الى لبنان لا بُدّ أن تحظى بالرضى الإيراني. ويستطرد: بعضهم يقول أنا معارض لولاية الفقيه، لكن ولاية الفقيه ليست نظرية فقهية كنا ندرسها في الفقه على مقاعد الدراسة في النجف أو إيران. إنها نظام سياسي. لذلك يجب سؤال من يقول: أعارض ولاية الفقيه: هل تعارض السياسة الإيرانية في لبنان؟ ولاية الفقيه هي مشروع سياسي. إيران تريد من خلالها الحصول على تأييد مشروعها السياسي. الرئيس بشار الأسد مؤيد لولاية الفقيه لأنه متحالف مع المشروع الإيراني. الرئيس السابق ميشال عون مؤيد لولاية الفقيه لأنه تحالف مع من يعملون للمشروع الإيراني. ما يهم إيران الحصول على التأييد السياسي ولا تعير إهتماماً لمن يخالف نظرية ولاية الفقيه في الدراسة الفقهية».
هو لا ولن ينسى لحظة إغتصبت بيروت من حزب الله. ويتذكر قصيدة كتبها لبيروت في حينه بعنوان بيروت معذرة: بيروت معذرة قد جئت أعتذر إن كان عذرٌ لمن قد رام يعتذر، إني أقرّ بذنب لا يفارقني وخز الضمير وصدري كاد ينفجر، والحرّ لا يرتضي ظلم البريء وإن قام الشقيق به والناسك الوقر».
يستمرّ صوت السيّد الوقور منخفضاً. حتى بغضبِهِ يستمرّ هادئاً، مسيطراً. نسأله: ماذا عن الأمل «ببكرا»؟ يجيب: «لا يجوز أن نفقد الأمل لأن اليأس خطيئة كبيرة. وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل». وماذا عن الكلام عن لبنان آخر مختلف؟ يجيب: «لبنان الذي يُشبه الثنائي مرفوض من عموم اللبنانيين، حتى من البيئة التي يهيمن عليها الثنائي. لبنان الذي نريده اليوم وغداً، كما الأمس، هو الذي عشناه صغاراً. وطن العدالة والحقّ والعيش الواحد. ومهما طال الظلم، مع بقاء السلاح وتقاسم السلطة والمنافع، فلن يدوم الى الأبد.