لبنان في المرتبة الثانية من حيث ارتفاع مستوى التعاسة: تراجع مقلق لعدد الأطباء والمعالجين النفسيين

في اليوم العالمي للصدمة النفسية، ينزلق اللبناني في متاهة بعض مؤشرات هذه الصدمة، لاسيما بعد تراكم الأزمات منذ بداية الحرب حتى وصلت الى مرحلة خانقة جداً منذ العام 2019 الى اليوم، من خلال جملة تصرفات عنيفة أو عصبية تظهر في قيادته السيارة أو اولوية مرور مركبته متجاوزاً الضوء الأحمر في إشارات السير مثلاً، أو في حديثه مع أحد موظفي المصارف لسحب مبلغ من المال يفوق ما يمكنه الحصول عليه، أو في تلاسنه مع البعض ممن يخالفونه الرأي السياسي أو الطائفي أو الحزبي، ما قد يرجح أحياناً ممارسة العنف اللفظي أو الجسدي لوقف السجال.

يكفي التذكير بما ورد في بيانات تقرير "غالوب العالمي للمشاعر" لعام 2022 عن ارتفاع كبير في أعداد اللبنانيين الذين تنتابهم مشاعر مؤلمة، كالغضب والحزن. هذه المشاعر منتشرة لدى ثلاثة أشخاص تقريبًا من أصل كل أربعة أشخاص، أو 74 في المئة من اللبنانيين بصورة عامة.

ولفت التقرير الى أن نحو نصف اللبنانيين أيضًا اختبروا الكثير من مشاعر الحزن (56%) والغضب (49%).

فضلًا عن ذلك، صُنِّف لبنان في المرتبة الثانية بين البلدان من حيث ارتفاع مستوى التعاسة (وهو مقياس مركّب قائم على التجارب اليومية للأشخاص مع مشاعر الحزن، والإجهاد، والقلق، والغضب والألم الجسدي) بعد أفغانستان في مؤشر التجربة السلبية الصادر عن "غالوب".

في الكلام الرسمي، أكد مدير البرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة العامة الدكتور ربيع الشماعي لـ"النهار" أن "دراسات منظمة الصحة العالمية كشفت أن شخصا واحدا من أصل 4 سيعاني من اضطراب نفسي في حياته، بينما سيحصل مريض واحد من أصل 10 في العالم على خدمة علاجية نفسية او دوائية"، مشيراً الى أن "هذه النتائج الاحصائية تعود الى غياب اي توعية على الاضطرابات النفسية، إضافة الى إعتبارها وصمة يتجنب الكثيرون الحديث عنها، فضلاً عن غياب الخدمات في هذا القطاع".

ماذا عن لبنان؟ كشف الشماعي أن "بعض الدراسات المحلية رصدت زيادة ملحوظة في الاضطرابات الشائعة عند اللبنانيين مثل الاكتئاب، التوتر والقلق وسواها، ما دفع الى رصد حاجة أكبر في توفير خدمات ذات جودة عالية في العلاج النفسي".

ولفت الى "أننا نشهد عموماً صعوبة في الحصول على الخدمة في القطاع الاستشفائي الخاص، ما فرض تعزيز الخدمات النفسية والصحية في مراكز الرعاية الأولية التابعة للوزارة واستحداث أقسام متخصصة في المستشفيات الحكومية والخاصة"، مشيراً الى أن "الوزارة والصناديق الضامنة تغطي جزءاً من الفاتورة الاستشفائية، ما يفرض تسديد ما تبقى من هذه الرسوم من قِبل المريض نفسه".

وسرد بإسهاب الخدمات التي يوفرها البرنامج بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية والجمعيات غير الحكومية المحلية والعالمية، منها "تأمين الخدمات المجانية وشبه المجانية الصحية الرعائية والنفسية في 57 مركزاً مع تأمين الادوية الاساسية للمريض، وتوفير التواصل مع "خط الحياة" عبر الرقم 1564 على مدار الساعة، وهو الخط الوطني للصحة النفسية الذي تديره الوزارة بالشراكة مع جمعية "امبرايس"، وافتتاح أقسام نفسية في مستشفيات عامة وخاصة منها مستشفى رفيق الحريري الحكومي، والعمل على تدشين قسم صحي نفسي في مستشفى تنورين الحكومي".

وتوقف الشماعي أيضاً عند "عمل البرنامج على تطوير تطبيق إلكتروني يُعرف بـ"خطوة خطوة" مهمته مساعدة من يعانون من اضطرابات نفسية كالاكتئاب والقلق على متابعة 5 جلسات اسبوعيا لتحسين وضعهم النفسي، مع إثبات فعاليته من خلال دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية على عيّنة من 1200 شخص يعانون من الاكتئاب".

ما الجديد في البرنامج؟ أجاب: "نعمل مع منظمة الصحة العالمية وبدعم من الوكالة الفرنسية للتنمية على إعداد استراتيجيا لهذا القطاع لسنة 2030، ستعلن تفاصيلها في تشرين الثاني المقبل، وهي تهدف الى إعادة إصلاح قانون الصحة النفسية وتوسيع انتشار الخدمات النفسية في المناطق النائية والاطراف".

 

نقص حاد

بدورها، أكدت المنسقة الطبية في منظمة "أطباء بلا حدود" الدكتورة كالين رحيّم لـ"النهار" أنه "بعد تراكم الأزمات الحياتية الحادة في لبنان، ولاسيما بعد أزمة 2019 الى اليوم، وتداعيات جائحة كورونا على المجتمع، عكست المؤشرات إرتفاعاً مضاعفاً لطلب الخدمات الرعائية والطبية لمرضى الأمراض المزمنة، الذين قصدوا عيادات منظمة "أطباء بلا حدود" ومراكز الرعاية الأولية التابعة لوزارة الصحة المدعومة من المنظمة في كل من بيروت والضاحية الجنوبية، البقاع، بعلبك، الهرمل، وادي خالد، عرسال، طرابلس، ما عكس ازديادا في حاجة المرضى الى متابعة نفسية أكثر من الماضي، مع رصد حالات نفسية في مراحل متقدمة".

ممَّ يشكو المرضى؟ أجابت رحيّم ان "الخبراء في هذه المراكز رصدوا تشخيص المرضى بالإكتئاب، والقلق والصدمة وسواها، مع العلم أن ثمة أعراضا قد تعكس مؤشراً لاحتمال وجود حالة نفسية قد تستدعي الدعم النفسي في حال رغب المريض بذلك، منها الشعور بالحزن، أو عدم القدرة على النوم أو التركيز في العمل، أو اضطرابات الأكل أو عدم القدرة على تحمّل ضغوط الحياة والمسؤوليات العائلية وما شابه".

وحددت بعض النقاط التي تعوق تسريع نمط العلاج النفسي للمرضى، أبرزها النقص الملحوظ في عدد الأطباء والمعالجين النفسيين وعدد الأسرّة الخاصة بالصحة النفسية، مشيرة الى أن "هذا العدد المحدود من أفراد الطاقم الطبي والنفسي حال دون تسريع المعاينة النفسية للمرضى بسبب تفاقم الطلب على هذه الخدمة".

وإذ شددت على أهمية التشخيص المبكر لواقع الصحة النفسية، أكدت "أن العافية النفسية هي جزء لا يتجزأ من الصحة الجسدية، ولاسيما لجهة مراجعة متخصص طبي لعلاج بعض التأثيرات الصحية التي تخلّف بعض الاضطرابات على الصحة النفسية كما الحال في معالجة اضطرابات الغدة الدرقية مثلاً".

وتوقفت ايضا عند مسيرة منظمة "أطباء بلا حدود"، مؤكدة أن "النشاطات التثقيفية الهادفة الى التوعية على أهمية الصحة النفسية في المناطق وثّقت الثقة بيننا وبين المجتمع". وخلصت الى "اننا ندعم مع فرقاء عاملين في هذا القطاع خدمات طبية ونفسية مجانية في عياداتنا ومراكز الرعاية الأولية التابعة لوزارة الصحة، وتشمل خدمات الدعم العلاج النفسي والاجتماعي، وإحالة الحالات النفسية الحادة لمتابعتها في المستشفى".