المصدر: المدن
الكاتب: منير الربيع
الجمعة 24 تشرين الأول 2025 00:26:19
لا يمكن فصل إقرار لبنان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع قبرص عن كل التحولات الجارية في المنطقة، وسعي اللبنانيين إلى مواكبتها. خيوط كثيرة تتقاطع وتتشابك وقابلة للتعقيد بين دول عديدة في هذا الملف. فدول لديها طموحات ومصالح تريد حفظها وتكريسها وضمان حصتها، ودول أخرى تعتبر نفسها متضررة حتماً ستعمل على حماية نفسها من الضرر. يأتي الترسيم بالتزامن مع إعادة ملف تلزيم التنقيب في البلوكات النفطية إلى الواجهة مع الاستعداد لتلزيم البلوك رقم 8 لتحالف الشركات التي فازت بالتنقيب في البلوكين 9 و10. عملياً ترتبط ملفات التنقيب بإنجاز الترسيم، فلبنان سبق وأنجز ترسيم حدوده البحرية (بشكل غير كامل نهائياً) مع إسرائيل لكنه لم ينجح في تفعيل عمل التنقيب والاستخراج. والآن يرسم الحدود مع قبرص، التي تستعجل إنجاز هذا الملف كي تبدأ نيقوسيا التنقيب عن الغاز في مياهها الاقليمية أو منطقتها الاقتصادية الخاصة.
أُلزِم لبنان بإبرام اتفاقية مجحفة
في العام 2002 انطلقت مفاوضات الترسيم مع قبرص، كان ذلك بعد تحرير الجنوب والعمل على وضع الخط الأزرق الذي اعتُمد كخط للانسحاب الإسرائيلي من لبنان، لكنه لم يكن ترسيماً نهائياً للحدود البرية. لم تصل المفاوضات مع قبرص في حينها إلى نتيجة، فتجددت المفاوضات في العام 2006 وتحديداً بعد حرب تموز وصدور القرار 1701 الذي نص بوضوح على أهمية ترسيم الحدود الكاملة للبنان أي مع إسرائيل، قبرص وسوريا. وبالتزامن، سارعت تل أبيب إلى الدخول في مفاوضات مع قبرص، ما شكل عنصر ضغط على الحكومة اللبنانية للدخول في مفاوضات مع الدولة القبرصية، لأن أي اتفاق يحصل بشكل جانبي بين إسرائيل وقبرص سيتسبب بضرر كبير للبنان. ونتيجة لهذا الضغط، وعلى وقع تعثر مسار الترسيم مع إسرائيل كما مع سوريا، وجدت الحكومة اللبنانية نفسها يومها ملزمة بتوقيع الاتفاق مع قبرص. فيما بعد، وإثر الانقلاب الذي تعرضت له حكومة الرئيس سعد الحريري في العام 2011، اعترضت كتل نيابية عديدة ولا سيما حزب الله وحركة أمل على اتفاقية الترسيم مع قبرص، باعتبار أنها مجحفة بحق لبنان، واعتبروا أن من حقه الحصول على مساحة أكبر من تلك التي نصت عليها الاتفاقية.
منطق الثنائي وخيار السنيورة
حينذاك، أراد الثنائي الشيعي الإيحاء بأن الاتفاق الذي عملت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة على إبرامه مع قبرص هو الذي فرض على لبنان الدخول في مفاوضات مع إسرائيل، لا سيما أن الحكومة أصرت على مواجهة أي تفاوض قبرصي - إسرائيلي على حساب لبنان، فأبرمت الاتفاق، وهو الذي يُلزم قبرص بعدم إقدامها على أي ترسيم للحدود البحرية والاقتصادية، مع إسرائيل، من دون موافقة مع لبنان.
"تشابك ترسيم" ثلاثي
وتنص المادة الثالثة من تلك الاتفاقية على التالي: "إذا دخل أي من الطرفين في مفاوضات، تهدف إلى تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع دولة أخرى، يتعين على هذا الطرف إبلاغ الآخر والتشاور معه، قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع الدولة الأخرى، إذا ما تعلق التحديد بإحداثيات النقطتين 1 أو 6". وفي العام 2011، راسلت قبرص الدولة اللبنانية لتطبيق الاتفاقية، وكانت بالتزامن تفاوض الإسرائيليين للترسيم معهم. لكن لبنان حينذاك لم يستجب بسبب اعتراضه، وبسبب اعتماد مبدأ "ترسيم النقاط المؤقتة" والتي كانت تعني في حينها عدم الاقتراب من النقاط التي تقع على خط التماس مع إسرائيل أو مع سوريا، ما دام الترسيم لم يحصل معهما. ونتيجة لعدم تجاوب لبنان، أقدمت قبرص على توقيع اتفاقية ترسيم ثنائية مع إسرائيل، فتقدمت بيروت بشكوى إلى الأمم المتحدة لحفظ حقها.
... والتفاهم مع تركيا
في تلك الفترة أيضاً، دخلت تركيا على الخط، وهي التي تعتبر نفسها متضررة إذا حصل اتفاق لترسيم الحدود بين قبرص وإسرائيل أو بين قبرص ولبنان. فتركيا تعتبر أن لها الحق بأن تكون شريكة في ترسيم الحدود البحرية في البحر الأبيض المتوسط، كما تعتبر أنها كانت تتعرض لضغوط دولية أوروبية إسرائيلية مع قبرص اليونانية لإبعادها عن المتوسط وعن التأثير في هذا الملف. لكن أنقرة تمسكت بما تعتبره حقاً لها في جمهورية قبرص الشمالية، وحدودها البحرية والتي لا يمكن لنيقوسيا الترسيم من دون التفاهم معها. يومذاك، وخلال زيارة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لأنقرة ولقائه الرئيس رجب طيب أردوغان، حصل اتفاق شفهي على أن لا يقدم لبنان على ترسيم الحدود البحرية من دون التفاهم مع تركيا.
تشابك خطوط متوسطية نحو أوروبا
تواصلت الضغوط الأميركية على لبنان لإنجاز ترسيم الحدود مع إسرائيل، وقد بلغت الضغوط ذروتها بين العامين 2020 و2022 حين أنجز الاتفاق. وكانت إسرائيل تعمل آنذاك على إنشاء تحالف دول شرق المتوسط، وتبحث في تشييد أنبوب لتصدير الغاز إلى أوروبا. وكان التحالف يضم إلى جانب تل أبيب، اليونان وقبرص وإيطاليا، إضافة إلى الانفتاح على مصر والأردن، في مسعى إلى تطويق تركيا نفطياً، علماً أن تركيا كانت قد استبقت ذلك من خلال تحالفها مع حكومة طرابلس في ليبيا وتوقيع اتفاقيات عديدة بما فيها دفاع مشترك، واتفاق نفطي في البحر المتوسط، ونجحت عندها بكسر الطوق من حولها في المتوسط. ولم يحظ هذا التحالف الشرق أوسطي بدعم أميركي كامل، لا سيما في ولاية ترامب الأولى، إذ كان يسعى إلى تكريس التقارب مع أنقرة. وكانت تركيا تسعى إلى تحسين علاقاتها مع إسرائيل، وتقديم عرض بأن يتم تصدير الغاز الإسرائيلي إلى تركيا التي تمتلك أنبوباً جاهزاً في اتجاه أوروبا عبر بلغاريا.
دور أذربيجان في قطع "الكوريدور"
بالتزامن مع توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، كان وزير الأمن الإسرائيلي بني غانتس يزور أنقرة للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره خلوصي آكار. التقى الطرفان حينذاك على العلاقة المتينة بأذربيجان ودورها الأساسي في المرحلة المقبلة في عملية ضخ الغاز إلى أوروبا. كما أن الهدف الإسرائيلي التركي المشترك هو قطع "الكوريدور" (الممر) ما بين إيران وأرمينيا.
"خط الوسط" أفضل الممكن؟
مع بداية العهد الجديد في لبنان، وبعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، التي لا تزال مستمرة، بقي الإصرار على استكمال ترسيم الحدود براً مع إسرائيل، وبحراً مع قبرص، وبراً وبحراً مع سوريا. وسارع الرئيس القبرصي إلى زيارة بيروت، وبعدها قام رئيس الجمهورية بزيارة نيقوسيا. وأنجز سريعاً الاتفاق الذي أقرته الحكومة، وسط قراءات متضاربة له، بين من يعتبر أنه إنجاز للبنان، ومن يعتبر أنه كان في الإمكان تحقيق مساحة بحرية أكبر، لو لم يتم اعتماد "نظرية خط الوسط" التي اعتُمدت في آلية الترسيم. أي إن لبنان بقي يعتمد خط الوسط الذي تعتبره اللجنة المكلفة من جانب الحكومة الحلّ الأمثل لضمان حق لبنان. لكن المعترضين يعتبرون أنه كان في الإمكان اللجوء إلى اجتهادات أخرى من جانب محكمة البحار، نظراً إلى قصر الشاطئ اللبناني في مقابل أن قبرص جزيرة محاطة بالبحار. وعليه، يجب منح لبنان حصة بحرية أكبر بحدود تتراوح بين 2600 و5000 كلم2.
قبل التفاهم مع سوريا
عملياً، نجح لبنان في الترسيم مع قبرص، وسط استمرار التفاوض مع سوريا لإنجاز ترسيم الحدود البرية والحرية، علماً أن اتفاقية العام 2007 تنص على أنه لا يمكن لأي من البلدين توقيع اتفاق مع طرف ثالث من دون التوافق أو التفاهم مع الدول الأخرى. وعليه، أنجز الترسيم مع قبرص قبل التفاهم مع سوريا وإنجاز الترسيم معها. هذا قد يؤدي إلى تسريع مسار الترسيم مع دمشق، أو ربما إلى تعثره. لكن المؤكد هو أن تركيا لن تكون راضية عمّا جرى، فهي تفضل إنجاز عملية الترسيم في البحر المتوسط بالتفاهم معها، وخصوصاً من جانب لبنان وسوريا، وانطلاقاً مما تعتبره عائداً لها مع قبرص الشمالية.
سوريا بعد الأسد
بعد سقوط نظام بشار الأسد، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن تركيا ستعمل سريعاً مع الإدارة السورية الجديدة لترسيم الحدود البحرية. وهو ما أزعج قبرص التي تعتبر نفسها متضررة من أي تطور أو تقدم تركي في البحر المتوسط. وفي السنوات الماضية، عندما سعى لبنان إلى الترسيم مع قبرص- ولا بد له من الترسيم مع سوريا- كان يراهن على دور روسي لمساعدته في ذلك. وأما اليوم، بعد سقوط النظام، فالعلاقات اللبنانية السورية تتخذ طابعاً مباشراً، والمفاوضات مستمرة لترسيم الحدود، فيما تركيا أبدت استعدادها علانية للدخول على خط الترسيم وإنجازه.
3 خيارات للبنان
لا بد للبنان أن ينتظر كيفية تعاطي سوريا مع الترسيم مع قبرص، ويترقب احتمال حصول رد فعل تركي سوري مشترك، فيما يبقى الأساس هو الخط الذي سيُعتمد لاحقاً لتصدير الغاز، خصوصاً أن الدراسات تشير إلى أن لبنان لا يمتلك كميات كافية للتصدير عبر أنبوب مستقل. وهذا يعني أن أمامه 3 خيارات: الاول هو اعتماد الأنبوب الذي ستعتمده كل دول المنطقة بما فيها إسرائيل. الثاني، التصدير من خلال الأنبوب التركي. الثالث، هو اعتماد التصدير عبر السفن ولكن ذلك سيحتاج إلى إنشاء معمل لتسييل الغاز كي يتم نقله. في المقابل فإن الاستراتيجية الأميركية الواضحة في المنطقة، تسعى إلى ربط النفط والغاز من خلال رؤيتها لمتغيرات الشرق الأوسط ككل، وتحت سقف "اتفاقات السلام" التي تسعى إليها.
صراع تركيا وإسرائيل
وما تسعى إليه واشنطن أيضاً، هو العمل على دمج إسرائيل بالمنطقة، وتحسين العلاقات التركية الإسرائيلية، هذه العلاقات التي لا تزال تتعثر سواء في سوريا، أو البحر المتوسط، أو غزة، أو حتى في جنوب لبنان إذ أن تركيا حاضرة من خلال مشاركتها في قوات اليونيفيل، وقد مددت قبل أيام بقاءها في سوريا والعراق وضمن اليونيفيل في جنوب لبنان لمدة ثلاث سنوات، وهذا ما يرفع من منسوب التنافس على النفوذ، والمصالح الاقتصادية والأمنية والعسكرية بين أنقرة وتل أبيب.