لبنان نحو الحصار المالي: المصارف تخنق المجتمع

حتّى هذه اللحظة، تشير جميع المؤشّرات إلى اتجاه المصارف لتنفيذ ما تم تسريبه من اجتماعاتها الأخيرة، لجهة الانتقال إلى التصعيد خلال الأسبوع المقبل، عبر الوصول إلى مرحلة الإقفال الشامل والتام. مع الإشارة إلى أنّ المصارف اكتفت خلال الأيّام الماضية بإقفال الفروع في وجه المواطنين، مع الإبقاء على خدمات الصرّاف الآلي والتحويل إلى الخارج.

تأزيم الوضع لتمرير الكابيتال كونترول
بذلك، بات من الواضح أنّ ما سيواجهه لبنان خلال الأيّام المقبلة سيكون عصيانًا ماليًّا من جانب القطاع المصرفي، وفرضا لحصار اقتصادي شامل على المجتمع، بما يطال الرواتب والعمليّأت التجاريّة وعمليّات القطع وغيرها، وبما يتجاوز نطاق الإضراب الذي جرى خلال الأيّام الماضية. وعلى أي حال، كان من الواضح أنّ جمعيّة المصارف تعمّدت تسريب تفاصيل هذا الإقفال الموعود، ربما بهدف إثارة بعض البلبلة وزيادة من منسوب القلق تجاه خطوتها المقبلة.

أمّا الغاية الأساسيّة، فهي تأزيم الوضع وتأجيجه، بهدف فرض إقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول في "جلسة تشريع الضرورة" المقبلة. وبينما دعا رئيس المجلس النيابي هيئة مكتب المجلس للاجتماع يوم الإثنين، لتنظيم جدول أعمال جلسة تشريع الضرورة وتحديد موعدها، تشير المصادر النيابيّة إلى أنّ الهيئة تتجه إلى وضع مشروع قانون الكابيتال كونترول في مقدّمة جدول أعمال الجلسة.

بصورة أوضح، تأكّدت جمعيّة المصارف حتّى اللحظة من حرص هيئة مكتب المجلس على تمرير القانون في جدول الأعمال. أمّا الإضراب، فسيسمح بخلق بيئة ضاغطة على الكتل النيابيّة، لتأمين النصاب والأصوات المطلوبة لمشروع القانون، بوصفه حاجة ملحّة لمعالجة الإقفال المصرفي الشامل.

تفاصيل الإقفال الشامل
تدرك المصارف جيّدًا ما تعنيه عبارة "الإقفال الشامل"، التي سرّبتها لوسائل الإعلام، بوصفها الخطوة التصعيديّة المقبلة. فهذه الخطوة، وكما تسرّبت تفاصيلها من اجتماعات الجمعيّة نفسها، ستعني ببساطة :

- وقف عمليّات تحويل الرواتب إلى حسابات التوطين، وبالتالي تجميد عمليّة تسديد أجور موظفي القطاعين العام والخاص. وبينما سيكون بإمكان جزء من موظفي القطاع الخاص إيجاد حلول بديلة، من قبيل تقاضي الأجور نقدًا بالليرة من أرباب العامل، سيتعذّر إيجاد مخرج أو حل لهذه المشكلة لموظفي القطاع العام، خصوصًا إذا امتد الإضراب لغاية نهاية الشهر.

- وقف عمليّات ماكينات الصرف الآلي وعدم تعبتئها، ما سيوقف آخر منفذ يمكن أن يؤمّن السيولة لعملاء المصارف.

- وقف عمليّات بيع الدولار عبر المنصّة، ما سيعني زيادة الضغط على سعر صرف السوق الموازية، بعد قطع أحد شرايين توريد الدولار إلى هذه السوق.

- وقف التحويلات إلى الخارج، ما سيجمّد الحركة التجاريّة في السوق ويهدد سلاسل توريد الغذاء والمحروقات.

- وقف السحوبات من حسابات الدولار الطازج، التي كانت ترفد السوق بجزء من المعروض النقدي بالدولار الأميركي، ووقف تلقي التحويلات في هذه الحسابات من الخارج، بما فيها تلك التي ترتبط بمساعدات المغتربين إلى ذويهم.

مصرف لبنان غائب عن السمع
إزاء هذا الابتزاز المصرفي غير المسبوق، والذي يذكّر بالإقفال المصرفي الشامل الذي شهدته البلاد بعد تظاهرات 17 تشرين الأوّل 2019، بدا مصرف لبنان غائبًا تمامًا عن السمع، رغم أن قانون النقد والتسليف يفرض على المصرف المركزي التدخّل بوصفه الجهة التي تنظّم "حسن علاقة" المصارف بعملائها. مع الإشارة إلى أنّ حاكم المصرف المركزي نفسه هو من يرأس الهيئة المصرفيّة العليا، التي تملك حق البت بهذا النوع من المخالفات والارتكابات المصرفيّة، والتي -ويا للمفارقة- يأتمنها مشروع قانون الكابيتال كونترول على البت بأي مخالفة يمكن أن تنشأ خلال تطبيق القانون.

في الوقت نفسه، لا يبدو أنّ الحكومة، أو وزارة الماليّة الوصيّة على عمل المصرف المركزي، تتجهان إلى التدخّل إزاء ما يجري، أو إلى مساءلة حاكم المصرف المركزي عن غيابه عن السمع، فيما يبدو أن ثمّة اتجاها لدى بعض القوى السياسيّة لاستثمار الاقفال المصرفي الشامل، واستخدامه كقميص عثمان لتمرير قانون الكابيتال كونترول. مع الإشارة إلى أنّ رئاسة الحكومة تدخّلت في مراحلة سابقة بعمل المصرف المركزي في ملفّات أخرى، كما جرى مثلًا مرّتين حين تم الطلب من حاكم مصرف لبنان ضخ الدولارات في السوق لضبط سعر الصرف، وهو ما أفضى إلى إصدار تعاميم وقرارات معيّنة من جانب حاكم مصرف لبنان.

على أي حال، يبقى الرهان الأخير في الوقت الحالي على تدخّل معيّن من جانب السلطة القضائيّة، وتحديدًا قضاء العجلة، الذي يفترض أن يلحظ آثار ما يجري اليوم على الاقتصاد المحلّي والمجتمع بشكل عام. وهذا تحديدًا ما أشارت إليه جمعيّة المودعين، حين تحدث بيان سابق لها عن ترقّب قرار قضائي "يلزم المصارف بفتح أبوابها"، وبإجراءات قد تصل إلى فرض "وصاية قضائيّة في حال تكرار الإضرابات التعسّفية".

ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ تدخّل السلطة القضائيّة بالتحديد بات مسألة ملحّة، نظرًا لربط جمعيّة المصارف إضرابها بقرار محكمة التمييز الأخير، الذي فرض على مصرف فرنسبنك سداد وديعتين بالدولار النقدي لا الشيكات المصرفيّة. بمعنى أوضح، جاء الإضراب الحالي كتمرّد في وجه قرار السلطة القضائيّة، وهو ما يفرض على المحاكم اللبنانيّة التعامل مع هذا الإقفال الشامل الذي تذرّع بالقرار القضائي للمطالبة بالكابيتال كونترول، الكفيل بإعطاء المصارف الغطاء القانوني بوجه دعاوى المودعين.