لبنان وقبرص في خمسين قيامها: ملفات عالقة... وتحدّيات المصالح المشتركة

تحتفل قبرص في العشرين من الشهر الجاري بذكرى مرور خمسين عاماً على قيامها، وسط تحدّيات كثيرة تواجهها على مستوى علاقاتها بمحيطها، في ظلّ استمرار النزاع مع تركيا التي قامت قبل خمسين عاماً وتحديداً في العشرين من تموز ١٩٧٤ باحتلال أجزاء من شمال الجزيرة بعد محاولة انقلاب قام بها قبارصة يونانيون من أجل إلحاق الجزيرة باليونان. وما بين النزاع المستمر منذ خمسة عقود على الضفتين التركية واليونانية، برزت أخيراً تهديدات أطلقها الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله في اتجاه الجزيرة على خلفية سماحها للجيش الإسرائيلي باستعمال البنى التحتية فيها لإجراء مناورات تحاكي أي حرب موسعة محتملة تشنّها إسرائيل على لبنان.

ففي غمرة المواجهة بين الحزب وإسرائيل وارتفاع حدة التهديدات الاسرائيلية حيال توسيع الحرب، أطلق نصرالله تهديداً عالي النبرة إلى السلطات القبرصية حين اعتبرها جزءاً من الحرب إذا أجازت للجيش الإسرائيلي استعمال أراضيها أو مجالها الجوّي لضرب لبنان.

وقد أخذ المسؤولون القبارصة تلك التهديدات على محمل الجد، انطلاقاً من أن الجزيرة شكلت منذ أعوام طويلة مجالاً مفتوحاً لإسرائيل لإجراء مناوراتها وتدريبات كوادرها، نظراً إلى الطبيعة الجغرافية القريبة من طبيعة لبنان.

لا تحتمل قبرص حتماً فتح مواجهة مع لبنان، تماماً كما لا يحتمل لبنان أي توتر في العلاقة مع المنفذ الأقرب الوحيد للبنانيين عبر البحر. ويتفق الطرفان على هذا الأمر، وقد ترجما ذلك عبر الجهود المشتركة التي بذلاها ثنائياً أو عبر الاتحاد الأوروبي من أجل تطويق ذيول تهديدات نصرالله ومنع الانزلاق إلى أي مواجهات غير محسوبة.

تحكم العلاقة بين لبنان وقبرص جملة ملفات تشكل تحديات غير مريحة لكلا الطرفين، لعل أهمها ثلاثة: ملف الهجرة غير الشرعيّة للاجئين السوريين، وملف اتفاقية ترسيم الحدود البحرية العالقة منذ عام ٢٠٠٧، تاريخ توقيع الاتفاقية وعدم إبرامها من قبل لبنان، ما أدى إلى تعطيل تنفيذها، فيما تجهد السلطات القبرصية لدفع لبنان نحو إبرامها وإدخالها حيز التنفيذ، خصوصاً بعدما وقع لبنان على الترسيم البحري لحدوده الجنوبية. ورغم أن هذا الموضوع لا يغيب عن أي جدول محادثات للمسؤولين القبارصة الذين أكثروا من زياراتهم في الآونة الأخيرة، ولا سيما بعد اندلاع حرب غزة، لم يُسجّل أيّ تقدّم في ظل تمسّك لبنان بموقفه واعتباره أن الاتفاقية تهدر الكثير من حقوقه. وكل التعويل اليوم على أن يعاد النظر في الاتفاقية على ضوء الظروف الأمنية والسياسية الأخيرة، على نحو يتيح للبنان الحفاظ على حقوقه، وإلا فإن الفريقين سيكونان ملزمين باللجوء إلى التحكيم توافقاً مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982 لكون لبنان وقبرص منضمّين إلى هذه الاتفاقية. وبالتالي، هما مُجبران على حلّ النزاع بينهما وفقاً لمندرجاتها. ورغم إعلان الرئاسة اللبنانية عام ٢٠٢٢ غداة إنجاز الترسيم مع إسرائيل، التوصّل الى صيغة لترسيم الحدود مع قبرص عبر تعديل الحدود البحرية الجنوبية وفق الخط ٢٣، فإن الأمر لم يتحقق وظلّ مجمّداً في انتظار التفاهم مع سوريا، المعنيّة هي أيضاً بهذا الترسيم.

ويكمن التحدي الثاني في ملف الكابل البحري Cadmos 2 الموقّع عليه منذ عام ٢٠٢٢ أي قبل عامين، ليربط لبنان بقبرص، وسط إعلان وزارة الاتصالات أن الشركة القبرصية ستتحمّل وحدها الأكلاف كاملة، وقيمتها ١٠ ملايين دولار، إضافة إلى تقديم حصّة مجانية للبنان تبلغ 50 في المئة من الكابل، شرط أن تحتفظ لنفسها باتخاذ جميع القرارت المتعلقة بالتشغيل والاستثمار والصيانة. وقد أثار هذا الأمر شكوكاً وتحفظات حيال مخاطر انكشاف لبنان أمنياً، كما انكشاف كل الاتصالات اللبنانية عبر التنصّت الذي سيصبح متاحاً على كل شبكة الاتصالات في لبنان، وسط تساؤلات عمّن يقف وراء الشركة القبرصية والتمويل الذي تقدّمه، والمخاوف من أن يكون تمويلاً إسرائيلياً حسب ما قال النائب قبلان قبلان الذي يخشى أن تتكشف الصفقة عن أصابع إسرائيلية تهدّد الأمن القومي اللبناني. وقد تمت الصفقة من دون اعتراض أي من الجهات الرسمية والأمنية المعنية، ما عزّز مخاوف قبلان خصوصاً أنه وجه سؤالًا إلى الحكومة ولم يلق جواباً عليه!

أما التحدي الثالث المتمثل بملف الهجرة، فقد أكدت مصادر سياسية مواكبة أن هذا الملف يجري بحثه مع السلطات القبرصية بهدوء وتروٍّ، لمنع إقحامه في السجالات السياسية القائمة. لكن المشكلة أن الجهود التي تقودها قبرص مع الاتحاد الأوروبي تركز على تقديم المساعدات للاجئين لا تحفيزهم على العودة، ما يؤكد استمرار التوجّه الأوروبي بالإبقاء على اللاجئين في لبنان واستمرار تهديدهم الجزيرة بالهجرة غير الشرعية في اتجاهها.

ورغم حماوة الملف ودقته بالنسبة إلى قبرص ولبنان على السواء، أدّى إطلاق نصرالله تهديداته، إلى انتقال الاهتمامات بتسارع إلى المستوى الأمني المهدد، رغم أن التهديدات من الجانب اللبناني تم احتواؤها، لكن المشكلة أن التهديدات الاسرائيلية لا تزال قائمة، ما يعني أن الاعتماد على قبرص لا يزال قائماً رغم كل التأكيدات القبرصية بأن الجزيرة لا تقبل أن تكون جزءاً من المشكلة، بل جزءاً من الحل!