المصدر: المدن
الاثنين 1 كانون الاول 2025 01:06:26
لم يكن اختيار تركيا كأول محطة خارجية للبابا ليو الرابع عشر، بعد تولّيه سدة الكرسي الرسولي في أيار/مايو الماضي، قراراً بروتوكولياً اعتيادياً، بل جاء مُخططاً بدقة عالية، يحمل في طيّاته أبعاداً روحية وتاريخية ودبلوماسية متداخلة.
تركيا في الذاكرة المسيحية
فتركيا، رغم تراجع حضور الجماعات المسيحية فيها إلى نسبة ضئيلة من السكان، لا تزال تحتل مكاناً محورياً في الذاكرة المسيحية العالمية، لارتباطها العضوي بجذور المسيحية الأوائل، وبخاصة عبر مدينتَي القسطنطينية ونيقية (إزنيق حديثاً)، واللتين شكّلتا عصب الحياة اللاهوتية والكنسية في القرون الثلاثة الأولى من العصر المسيحي.
البابا وصل أنقرة في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، في زيارة تستمر ثلاثة أيام، يزور خلالها معالم روحية لا تقلّ أهمية عن المقرات السياسية: إذ بدأ جولته من ضريح أتاتورك، رمز الدولة العلمانية الحديثة، ثم انتقل إلى مسجد السلطان أحمد، في إشارة واضحة إلى رغبته في التأكيد على حوار الأديان لا من باب المجاملة، بل كضرورة وجودية في زمن تتشدّد فيه الخطابات وتتعمّق فيه الانقسامات.
ومن المسجد إلى كنيسة مور أفرام السريانية الأرثوذكسية، ثم إلى بطريركية الروم الأرثوذكس في فنر – مقر بطريرك القسطنطينية برثلماوس، الذي يُنظر إليه، لاهوتياً وتاريخياً، على أنه "الأول بين المتساوين" في عالم الأرثوذكسية.
اللقاء بين البابا والبطريرك، والتوقيع المشترك على إعلان يتناول وحدة المسيحيين ومواجهة التحديات المشتركة، هو حدث لا يُفهم بمعزل عن سياقه التاريخي: فالانقسام بين الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية، الذي ترسّخ رسمياً عام 1054 مع "الشقاق العظيم"، لا يزال يلقي بظلاله حتى اليوم، رغم جهود المصالحة التي بدأت تأخذ زخماً ملموساً منذ الستينيات، ولا سيما مع لقاء بولس السادس والبطريرك أثيناغوراس في القدس عام 1964.
رمزية نيقية
ولكن ما يجعل هذه الزيارة مختلفة هو تركيزها على نيقية، المدينة الصغيرة التي تبعد نحو ساعة ونصف عن إسطنبول، والتي لم تكن يوماً مجرد نقطة جغرافية عابرة.
ففي عام 325، دعا الإمبراطور قسطنطين، أول إمبراطور روماني اعتنق المسيحية، المجمع المسكوني الأول إليها، وتحت سقفه وُضعت صيغة "الإيمان النيقاوي"، التي لا تزال تُتلى حتى اليوم في قداسات الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية كتعبير موحّد عن جوهر العقيدة المسيحية.
وفي العام 787، استضافت المدينة المجمع المسكوني السابع، الذي أنهى الخلاف اللاهوتي حول تبجيل الأيقونات، وأعاد تعريف العلاقة بين المادة والروح في العبادة المسيحية.
اختيار نيقية، إذن، ليس تكريماً للتاريخ وحسب، بل محاولة لاستحضاره كأداة لفهم الحاضر. فالفاتيكان يدرك أن أي محاولة لتوحيد الموقف المسيحي في مواجهة التحديات المعاصرة، من العلمانية الصارمة إلى تهميش الأقليات في مناطق النزاع، لا يمكن أن تنجح من دون العودة إلى اللحظات التأسيسية التي شكّلت مفاهيم الإيمان والكنيسة والجماعة.
الزيارة من منظور ديني
وحسب المؤرخ والمحلل السياسي، عمر الحسون الهاشمي، في حديثه لـ "المدن"، فإن زيارة البابا فرنسيس إلى تركيا هي زيارة من منظور ديني، وتحمل رسالة موجّهة إلى الكنائس المسيحية على اختلاف مذاهبها ومدارسها، داعيةً إلى الوحدة بين المذاهب المسيحية، وإلى وحدة الإيمان أو الرسالة الرسولية، بمناسبة الذكرى السنوية الـ 1700 لمجمع نيقية.
وشرح أن مجمع نيقية الأول، أو المجمع المسكوني الأول، يُعدّ أحد المجامع المسكونية السبعة وفقاً للكنيستين الرومانية والبيزنطية، وأحد المجامع المسكونية الأربعة الكبرى، وسُمّي بهذا الاسم نسبةً إلى مدينة نيقية، التي عُقد فيها، وهي العاصمة الثانية لولاية بيثينية، وتقع في شمال غرب تركيا حالياً (مدينة إزنيق حالياً)، وقد حضر افتتاحه الإمبراطور قسطنطين الأول، وبدأ المجمع جلساته في 20 مايو 325 م.
"في وحدة الإيمان"
كان هذا المجمع أول مجمع مسكوني في التاريخ المسيحي، ودُعي إليه للردّ على بدعة آريوس، التي ادّعت أن المسيح مخلوق ولا يشارك الآب في الأزلية، فكتب البابا ألكسندرس (أسقف الإسكندرية آنذاك) إلى الملك قسطنطين الكبير، مطالباً بعقد مجمع مسكوني للبتّ في هذه البدعة، وطلب ذلك أيضاً الأنبا أوسيوس، أسقف قرطبة، فاستجاب قسطنطين، وأصدر منشوراً دعا فيه جميع الأساقفة في الإمبراطورية، فشارك في المجمع 318 أسقفاً من مختلف مناطق العالم المسيحي، وحضره البابا ألكسندرس، الذي كان البابا الوحيد في ذلك الوقت، وكان هو المدّعي ضد آريوس.
وفي هذا السياق، أُقيمت صلاة المسبحة تحت عنوان "في وحدة الإيمان" تزامناً مع الذكرى اليوبيلية لمجمع نيقية، كما صدرت الرسالة الرسولية "In unitate fidei" صباح الأحد الماضي، قبل أيام من الزيارة.
يُذكر أن المسيحيين اعتبروا سقوط نيقية بيد المسلمين العثمانيين خسارةً فادحة، إذ كانت تُعتبر من أهم مدنهم ومواقع اجتماعاتهم المقدّسة.
وبعد حصار نيقية من قِبل عثمان الأول عام 728 هـ / 1331 م (أو 731 هـ)، استولى المسلمون بقيادة العثمانيين على المدينة البيزنطية الرئيسية نيقية (حالياً: إزنيق، تركيا). وقد شكّل هذا السقوط بدايةً لسلسلة انهيارات في معاقل وقلاع ومؤسسات مسيحية أمام التقدّم الإسلامي العثماني، حسب المؤرخ الحسون الهاشمي.
السياق الجيوسياسي لا يقل أهمية في مرحلة تشهد توتراً إقليمياً متصاعداً، من أوكرانيا إلى السودان، ومن غزة إلى القوقاز، إذ تسعى تركيا إلى إعادة تعريف موقعها كـ"وسيط" بين القارات والأديان، لا كطرف في الصراعات.
استضافة البابا، وتأمين حرية حركة لاهوتية وشعائرية في مدن مثل إسطنبول وأنقرة، هي جزء من هذه الاستراتيجية.
استعادة الحضور المسيحي
أما الفاتيكان، فلم يعد ينظر إلى الشرق الأوسط كمنطقة للرعاية الرعوية فحسب، بل كفضاء استراتيجي لاستعادة الحضور المسيحي المهدّد، ولبناء شراكات مع دول ذات أغلبية مسلمة يمكن أن تشكّل نموذجاً بديلاً للنزاعات الطائفية.
وتركيا، بترابطها التاريخي مع القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية التي كانت المركز السياسي والكنسي للعالم المسيحي الشرقي لأكثر من ألف عام، تُقدم للفاتيكان فرصة نادرة: أن يُظهر أن الانقسامات التاريخية قابلة للتفاهم، وأن الوحدة ليست شرطاً مسبقاً للتعاون، بل نتيجة ممكنة له.
وقال الباحث السياسي، مهند حافظ أوغلو في حديثه لـ "المدن": "عندما تكون الزيارة الأولى للبابا إلى تركيا، أي إلى منطقة الشرق الأوسط، فهذا يعني أن أنقرة هي من تقود المنطقة، وهو اعترافٌ ضمني من البابا بين مزدوجين: فالبابا، راعي السلام والداعي إليه، يأتي إلى تركيا لأنه يعلم أن فرض السلام، سواء بالسياسة أو بالدبلوماسية، أو حتى باللجوء، عند الضرورة، إلى أسلوب الحزم، ينطلق منها".
وتابع: "هذه الزيارة تؤكد أن تركيا رائدة في الشرق الأوسط، بل ومَرجعٌ حتى لمرجع السلام في العالم، وهو الفاتيكان، فاعتباره تركيا مرجعاً له يعني أن ما تقوم به أنقرة يتجاوز ما يدركه الكثيرون عنها، خصوصاً على المستوى الديني، كما أن هذه الزيارات، إلى المجامع المسكونية والكنائس، تؤكد أن تركيا، بالرغم من كون الغالبية فيها مسلمة، تعيش حالة تعايشٍ حقيقي ودعمٍ كامل لكافة الأديان، مع ضمان حرية مطلقة، واحترامٍ للتاريخ، والحفاظ على عبق التواصل مع الحاضر ويؤسس لمستقبل متوازن".
الأمر لا يتوقف عند الأرثوذكس، فزيارة البابا لكنيسة سريانية أرثوذكسية قديمة تُذكر بأن المسيحية في الشرق ليست كاثوليكية أو أرثوذكسية يونانية وحسب، بل تضم كنائساً قديمة تعرّضت للاضطهاد والتهجير، من الأرمن إلى الكلدان والآشوريين والسريان.
ولن يكون قداس البابا في مركز "فولكس واغن" بإسطنبول، قبل توجّهه إلى لبنان، لن يكون مجرد ختام لزيارته التركية، بل بداية لمحطّة أعمق في منطقة تعيش أزمة وجودية بالنسبة للمسيحيين المحليين.
تنفيذ رغبة البابا فرانشيسكو
ولا يمكن تجاهل أن هذه الزيارة تأتي تنفيذاً لرغبة البابا فرانشيسكو المتوفى في نيسان/أبريل الماضي، الذي كان يخطط لزيارة نيقية عام 2025، الذكرى 1700 لمجمعها الأول.
وبتحقيق هذه الرغبة قبل الموعد المحدّد، يُظهر البابا ليو الرابع عشر أن برنامجه ليس قطيعة مع سلفه، بل تطوير له: فبينما ركز فرانشيسكو على الحوار مع الإسلام كدين، يركّز خليفته على الحوار مع الإسلام كحضارة مُجسّدة في دولة، وعلى الحوار بين المسيحيين كشرط مبدئي لأي حوار خارجي ناجح.
من جانبه، قال المحلل السياسي، مالك عبيد في حديث لـ "المدن": "تعد زيارة بابا الفاتيكان إلى تركيا مهمة، وخاصةً أنها أول زيارة خارجية للحبر الأعظم، إذ تعبر هذه الزيارة عن وحدة الشعوب رغم التنوع الإثني والديني فيها، وبالرغم من أن عدد المسيحيين الكاثوليك في تركيا لا يتجاوز مئة ألف، فإن الزيارة تشكّل منعطفاً مهماً لهم، حيث دعا البابا وشدّد على التنوع الديني في تركيا الحديثة، ورفض صبغتها بلون واحد، كما ويُشكل هذا التنوع الديني مصدر قوة لتركيا".
وتابع: "كما قام بابا الفاتيكان بزيارة عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الشرقية، وموقع مجمع نيقية، الذي يُعدّ من أهم المواقع الدينية لدى المسيحيين الأرثوذكس، والذين يبلغ عددهم حوالي مئتين وخمسين ألفاً، والهدف من زيارة هذا المجمع هو توحيد المسيحيين ونبذ الخلافات المذهبية، من أجل استتباب السلام في العالم".
وبالمحصلة، فإن هذه الزيارة تُعد من أبرز الزيارات التي يُجريها بابا الفاتيكان، وبخاصةً زيارته إلى تركيا، ذات الغالبية المسلمة، والتي تهدف إلى دعم التنوع الديني الذي يُعزّز مكانة تركيا ويُشكّلها كدولة متنوعة، تستقطب الجميع دون استثناء، وبغض النظر عن العرق أو الدين، وفق كلام عبيد.
الخلاصة، فإن زيارة تركيا، في هذا السياق، ليست رحلة تذكارية، بل مشروع دبلوماسية روحية هادئة، تستخدم التاريخ ليُسهم في صناعة مستقبل أقل انقساماً.