لو تسلل الخوف الى قلب بيار الجميّل تلك الليلة

انتهت الحرب اللبنانية بغالب ومغلوب، وغلبة المسيحيين لم تكن في التنازل عن صلاحيات رئيس الجمهورية والمناصفة في مجلس النواب فقط، بل خسارتهم اجتماعية سوسيولوجية ضربت وما زالت عميقا في بنيتهم السياسية وجدوى وجودهم، لا بل تتخطاهما لتضرب اساس انشاء البطريرك الحويك للبنان الكبير.

في التخاطب السياسي اليومي يصوب على الجانب المسيحي تصويبا دقيقا ويحمل وحده مسؤولية الحرب، ولا يطلق على الاطراف اللبنانية الاخرى حتى "رشقات" عرضية. والسردية الحقيقية للحرب لا يتحمل مسؤوليتها المسيحيون، بل يسجل لهم انهم انبروا للدفاع عن السيادة يوم عطل الجيش اللبناني. بينما كل المسؤولية تقع على الجانب الاخر الذي سهل العمل الفدائي الفلسطيني من ارض لبنان ليستغله في معركته السياسية بالمناصفة وفي صراعه مع المارونية السياسية.

الجانب الاخر، منع الدولة اللبنانية من الحفاظ على سيادتها، لا بل اجبرها مكرهة على التنازل عنها، بينما تلك الفصائل الفلسطينية انتقلت الى لبنان عمليا يوم قررت المملكة الاردنية الهاشمية ضرب تلك الفصائل التي هددت سيادتها ليسهل حافظ الاسد طريق مرورها الى الداخل اللبناني. ياسر عرفات تعلم من تجربته الاردنية ولعب على التناقضات اللبنانية لحماية نفسه وفصائله، لكن "العملاء" هنا بطبيعة الحال كان من تعاون معه وفتح له طريق ضرب الدولة ومؤسساتها وليس من مدافع عن الدولة وسيادتها.

جرت محاولات عديدة لمنع سقوط الدولة، تواجه الجيش اللبناني مع تلك الفصائل مرارا، ويوم حلق طيران الجيش اللبناني وضرب المخيمات الفلسطينية تماما كما فعل الاردن ارتفعت الاصوات المحلية متهمة الجيش اللبناني بالعمالة، وارتفعت الاصوات الديبلوماسية العربية المطالبة بوقف القصف، فيما اغلقت سوريا حدودها مع لبنان عقابا له لانه يدافع عن سيادته. تخلى الجميع عن لبنان وتركه يقفز تلك القفزة الحرة نحو المجهول بتشجيع وتضامن وتسهيل من بعض المكونات الداخلية.

قال كمال جنبلاط يوما في اطار الحرب الاعلامية والنفسية والمعنوية "بضعة فدائيين قادرون على رمي المسيحيين في البحر"، فبات المسيحيون في وضع الدفاع عن الدولة اولا، وعن انفسهم ثانيا، رغم موازين القوى غير المتكافئة. نحو 600 الف لاجىء فلسطيني على ارض لبنان اكثر من نصفهم مدربون ويحملون السلاح، يحظون بدعم سني كامل وبدعم درزي جزئي اذ ان المير مجيد ارسلان كان يقف الى جانب الدولة بينما وقف الشيعة كنواب وعائلات سياسية الى جانب الدولة.

المعركة لم تكن متكافئة وكم كان لبنان بحاجة الى رئيس حكومة كرياض الصلح يعيد الامور في الشارع السني الى نصابها، كل شيء كان يدل على ان الانفجار حاصل وبات الجميع ينتظره، حتى اتفاق القاهرة لم يتمكن من كبح جماح الفلسطينيين وحلفائهم في الحركة الوطنية، لكنه بطبيعة الحال فتح المجال امام المسيحيين للاستعداد. حصل الانفجار في 13 نيسان 1975 بعد احداث "البوسطة" الشهيرة، لكن هل سأل احد لو ان الخوف تسلل الى قلب بيار الجميّل في تلك الليلة ما كان واقعنا اليوم؟

لو سعى بيار الجميّل الى احتواء حادثة "البوسطة" على الطريقة اللبنانية كما جرت العادة منذ العام 1967، ولو جرى بعدها الى احتواء كل الحوادث ولم تشتعل تلك الحرب ما كان واقعنا السياسي والامني اليوم؟

طوقت بيروت بسلسلة مخيمات للاطباق على العاصمة واسقاطها، من جهة بيروت الغربية مخيمات برج الراجنة وصبرا وشاتيلا، من الجهة الشرقية جسر الباشا وتل الزعتر والكرنتينا وفي العمق مخيم ضبيه لقطع الامداد عن العاصمة. لو لم تقع الحرب لكانت تلك المخيمات تمددت اليوم وتداخلت مع الاحياء السكنية تماما كما الحال اليوم في عين الحلوة وبرج البراجنة وصبرا وشاتيلا ولكانت بيروت اليوم غزة 2 بؤرة تحكمها الراديكالية الدينية تماما كما هي حال غزة. تحكم غزة اليوم حركة حماس التي هي فصيل من فضائل الاخوان المسلمين والتي قد ترمز الى اي شيء الا الى الاعتدال الاسلامي وتجربة الاخوان في مصر مع محمد مرسي دليل على خطر هؤلاء على محيطهم، تماما كما هي الحال مع رجب الطيب اردوغان في تركيا الذي يتصدى له الاتحاد الاوروبي ويمتنع عن القبول بعضويته في الاتحاد حتى الساعة.

5313 شهيدا كتائبيا كانت كلفة اسقاط مشروع لبنان الوطن البديل للفلسطينيين، نعم بـ 5313 شهيدا نجحت الكتائب في منع سقوط لبنان كدولة، ولو انها ما زالت تدفع ثمن تلك التضحيات يوميا في نضالها السياسي، تدفع الكتائب من تاريخها ومن الاغتيالات الجسدية لقياداتها والاغتيالات المعنوية ايضا وهي تعتبر نفسها في "خدمة لبنان" ولا تحاول حتى الدفاع عن نفسها، تتهم بأنها عميلة لاسرائيل وتنفذ اجندة العدو، والكتائب هي هي لا تزحزحها الادعاءات والاتهامات ولا تقلقها المواجهات وكأن الشجاعة built in في محازبيها، تستمد قوتها من تاريخها وتستمد شجاعتها من شجاعة مؤسسها ليل 13 نيسان.

البعض يتبجح ان ظروف اليوم تختلف عن ظروف تلك الليلة، هناك اختلاف جوهري بين اليوم والامس، بالامس كنا نقاتل الغرباء على ارضنا ولو ان بعض مكونات الداخل كانت تقاتل معهم، اليوم نحن في صراع سياسي مع بعض مكونات الداخل الذين وضعوا انفسهم بخدمة مشروع خارجي، بالامس كان لا بد من مقاومة المحتل "الغريب" اليوم لا بد من مقارعة المكون الداخلي الذي يستغل فائض القوة لفرض سيطرته على الداخل. لكن اي من اخصام ذلك المكون لم يتخذ قرار المواجهة العسكرية معه بعد، ربما لانه تعلّم من تجارب الماضي القريب والبعيد، ولكن استمرار حزب الله "بتطنيش" اصوات الداخل قد يضع فرضية "آخر داء الكي" كخيار على الطاولة وهذا ما لا نتمناه.