ليست بكركي المستهدفة بل قيم الهويّة والحريّة

كتب د. جورج صدقة في الجمهورية: 

لم يخطئ الصحافي ابراهيم الامين بقوله: «انّ هناك إشكالية أهمّ من اشكالية سلاح «حزب الله» هي إشكالية اسمها بكركي، وبرأيي مشكلة لبنان هي الكنيسة المارونية». 

لم يخطئ لأنّه حدّد إشكاليتين تدور حولهما الحياة السياسية في لبنان. الأولى، هو الصراع القائم حول مستقبل الوطن، والذي يختصر بين مشروعين: مشروع «حزب الله» ومشروع بكركي.

والثانية، هو تحديد الخصم الذي يقف بوجه مشروع «حزب الله»، وهي الكنيسة المارونية. لذلك اعتبر أنّ بكركي هي المشكلة لأنّها العائق الرئيسي الظاهر أمام مشروع تغيير هوية لبنان، وخياراته السياسية، والثقافية والاجتماعية. وانطلاقاً من تحديد الخصم يتمّ التصويب عليه. لأنّ بكركي، كانت وما زالت، حجر الزاوية في بناء الكيان اللبناني. انّهم يصوّبون على عمود الهيكل، على الركيزة التي تقوم عليها أسس الوطن منذ نشأته قبل مئة عام، وهي بكركي والمارونية.

في الإشكالية الأولى، يظهر سلاح «حزب الله» الذي يدعم مشروعاً فئوياً وحزبياً، يستند الى منطق الاستقواء على الشركاء في الوطن، من خلال تمسّكه بالسلاح، فيما تتعارض خياراته ومبادؤه مع مختلف المجموعات المكونة للشعب اللبناني. أما بكركي، ومن دون أي سلاح، فهي حملت قيماً جمعت حولهما كل المجموعات اللبنانية يمكن اختصارها باثنتين: الهوية والحرية.

الأولى وهي الهويّة، وقد نشأت مع قيام لبنان الذي بنته المارونية لكل الشعب اللبناني. انّها هويّة الانتماء الى وطن يحمل مشروع تعايش هذه المجموعات مع بعضها، وقد بات بمثابة رسالة ونموذج حضاري للعالم.

الثانية وهي الحرّية، وهي في أساس نشوء المارونية، حملتها طوال تاريخها صامدة في وجه الامبراطوريات التي توالت على الشرق وترجمتها في نظام سياسي يضمن حرّية الفكر والمعتقد، يحترم الحريات الشخصية والعامة، وهذا ما ميّز لبنان عن غيره من دول المنطقة لفترة طويلة

ومشكلة من يهاجمون بكركي والمارونية اليوم انّهم يرفضون المشروعين معاً، يرفضون الهويّة، وهذا ما نراه في النموذج الثقافي الذي يحاولون تعميمه. ويرفضون الحرّية التي يعتبرونها نقيضاً لطروحاتهم الأحادية. مشكلتهم تبدو مع هوية لبنان التعددي المنفتح، حيث تلتقي كل الحضارات والأديان والثقافات في مزيج فريد من نوعه في العالم. ومشكلتهم مع الحرّية التي تناقض الفكر الواحد والنمط الواحد واللباس الواحد والرأي الواحد والحزب الواحد.

في الواقع، انّ لبنان اليوم يترنّح بين مشروعين: مشروع «حزب الله» ومشروع بكركي. واللبنانيون مدعوون الى الاختيار بين دولة متحالفة مع سوريا وإيران، تقف في صف الممانعة، ذات لون ثقافي موحّد، وبين دولة حيادية مسالمة ترفع شعار السيادة مع مبدأ النأي بالنفس وتؤمن بالتعددية في كل أوجهها.

المشروع الاول يصنّف بعض أخصامه بالخونة، ويصنّف دول العالم، فيصف بعضها بالشيطاني، ويعادي العالم العربي على قاعدة علاقات إيران الخارجية، ويرى دور لبنان بأن يكون رأس حربة في الصراع ضدّ العدو الإسرائيلي. بينما المشروع الثاني ينادي بالنأي بالنفس والحياد، ويرى لبنان ملتقى لحوار الأديان والثقافات والتقارب بين الشعوب.

المشروع الأول يستمد شرعيته من سلاح المقاومة، فيما الثاني يستمد شرعيته من التفاف الشعب اللبناني حوله، الذي يحلم بالسلام والأمن بعدما عانى عشرات السنين من الحروب والصراعات المحلية والخارجية.

بكركي لا سلاح عندها ولا جيوش. قوتها أنّها أطلقت في هذا الشرق قيم الانسانية التي باتت معولمة، وأطلقت قيم الحرّية ودافعت عنها واستشهد أبناؤها في سبيلها.

انّ النماذج الفكرية والاجتماعية المعاكسة لمبادئ الحرية التي تسوّقها بعض الأطراف باتت من الماضي. وانّ الايديولوجيات التي لا تحترم الحريات العامة والخاصة ما هي الّا ايديولوجيات هيمنة تخطّاها الزمن. فاللبنانيون اختاروا نموذج لبنان الحرية، حتى أولئك الذين ثاروا عليه في الماضي باتوا اليوم يدافعون عنه. والمارونية السياسية التي كانت هدف سهام هؤلاء، بات الجميع يترحّمون عليها ويتمنون العودة اليها.

قوّة الموارنة اليوم لم تعد في بكركي، لم تعد حتّى في المارونية السياسيّة، ولم تعد في إمساكهم بالسلطة. فبكركي، وإن كان مجد لبنان أُعطي لها، فهي باتت تنام على الأمجاد. والموارنة الذين نقلوا الثقافة والعلم والحضارة الى الشرق منذ مدرسة روما المارونية منذ القرن السادس عشر، يمرّون اليوم بمرحلة ركود. قادتهم تلهّوا بالكراسي، تركوا جبالهم الوعرة وانتقلوا الى نعيم القصور. بادلوا صلبانهم الخشبية بصلبان مذهبة. نسوا مقررات المجمع الماروني الاول عام 1736 الذي أقرّ التعليم المجاني للفتيان والفتيات، وحوّلوا مدارسهم وجامعاتهم الى مؤسسات ربحيّة. انهم يتقاتلون على المغانم، بعدما تنكّروا لإرث الأجداد القائم على التمسّك بكل حبة تراب. أما شعبهم فيعاني من اليأس، يتطلع الى الهجرة هرباً من قيّمين على أمرهم يتميّزون بالفساد والفشل

انّ ما فات منتقدي بكركي والذين يقفون وراء المشروع الأحادي الفكر في لبنان، هو أنّ الإرث الماروني لم يعد حكراً على الموارنة، ولا هم يحتكرون الدفاع عن قيم الهوية والحرية. لقد باتت هذه ملك الشعب اللبناني بأكمله، من كل الطوائف والأحزاب، حتى داخل البيئة التي ينتمي اليها ابراهيم الامين. لقد فاتهم أنّ إرث بكركي ومبادئها باتت قاسماً مشتركاً عند الغالبية الساحقة من اللبنانيين.

فاللبنانيون جميعاً باتوا يفتخرون بهويتهم، وشعار «لبنان أولاً»، هو تجسيد لهذا الانتماء. جميعهم باتوا متمسّكين بالحرّية بعدما تمتّعوا بهوائها ولمسوا أهميتها واعتادوا عليها. وها هم يرفضون التخلّي عنها مقابل أي مشروع آخر.

من أمثولات التاريخ أن ليس السلاح من يفرض الأنماط الثقافية، قد يفرضها لحين لكنها تتهاوى مع سقوط السلاح ومع التغيير الاجتماعي المتسارع. حتى الصين الشيوعية اليوم نسيت مبادئ ماو تسي تونغ ونسيت ثورته الثقافية التي فرضها بكلفة ملايين الضحايا من شعبه.

والستار الحديدي حول الاتحاد السوفياتي لم يمنع في الماضي تسرّب الأفكار الغربية التي ساهمت في إسقاط المنظومة الشيوعية. هي اليوم حال جميع الدول السلطوية التي تكبح شعبها، فهي غالباً ما تستعيد حريتها وتعدد ثقافتها حين يضعف نظامها السلطوي.

قوة بكركي، بنظرنا، ليست في بطركها ولا في مؤسساتها، انّها في المبادئ التي تحملها وتدافع عنها وهي حرية الإنسان واستقلال الوطن قبل أي شيء آخر. وأي انتقاد يستهدف بكركي انما هو استهداف لكامل الشعب اللبناني الحريص على حرّيته واستقلال بلده.