ليماسول تحوّلت إلى "ليباسول" في الحرب اللبنانية... قبرص حديقة اللبنانيين الخلفية الرحبة

فاجأ الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله اللبنانيين برسائل تهديدية لجزيرة قبرص من بوابة تعاونها العسكري مع إسرائيل.
 
إنها ليست المرة الأولى التي يهاجم فيها نصرالله دولاً صديقة للبنان ويعكّر صفو العلاقات اللبنانية معها، كدول الخليج أو بعض الدول الأوروبية، لكن يبقى ضمن الإطار السياسي نظراً لأدوار معيّنة تؤديها هذه البلدان في السياسة اللبنانية، فالانتقاد يبقى مقبولاً، أما في وضعية قبرص فالوضع مختلف خصوصاً أن لا تأثير سياسياً لهذه الدولة على الداخل اللبناني، بالإضافة الى أن هذه الدولة الجارة لم تقدّم الى لبنان سوى المساعدة والاحتضان وحسن الجيرة.
 
على الرغم من قرب الدولتين جغرافياً لم تقع أي مشاكل أو حروب أو غيرها بين لبنان وقبرص، وجلّ ما كان يجري في السنوات الأخيرة خلافات بسيطة حول ترسيم الحدود البحرية أو موضوع النازحين السوريين الذي بادرت قيادتا البلدين إلى حله في أسرع وقت وبأقل الأضرار الممكنة.
 
للبنانيين تاريخ طويل في قبرص، فهي كانت ملجأً أيام الحروب، حتى سُمّيت منطقة ليماسول أيام الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي "ليباسول" نظراً لكثرة اللبنانيين في المدينة.
 
وهو ما أثبتته سفيرة لبنان في قبرص كلود الحجل عندما تحدثت عن مئة ألف ملف عائلي مسجّل في السفارة القبرصية في ثمانينيات القرن الماضي.

بمجرد بحث صغير عن العلاقات بين البلدين تعرّف العلاقة المشتركة بين البلدين عن نفسها عبر المساعدات العسكرية أو الاقتصادية ولجان الصداقة بين البلدين الفاعلة دائماً على جميع المستويات ومنها العسكرية والإغاثية، وعدد كبير من الدورات العسكرية اللبنانية تجرى على الجزيرة بالإضافة الى كونها الجزيرة الأقرب التي ساعدت لبنان على مستوى الحرائق فكثيراً ما يستنجد لبنان بقبرص وتقنياتها وطائراتها عند عجزه عن إطفاء الحرائق لتتدخل الطائرات القبرصية وتقوم بالمهمة.
 
لطالما شكّلت متنفساً للبنانيين ورحلاتهم السياحية بسبب قربها الجغرافي والأمن الذي تتمتع به واهتمامها بالسياحة والسيّاح، بالاضافة الى أنها المهرب الأول من قوانين الأحوال الشخصية الدينية الملزمة في لبنان لتصبح متنفساً اجتماعياً مدنياً علمانياً، لغير الراغبين في الخضوع لهذه القوانين الرجعية، فعلى مدى سنوات طويلة عقدت آلاف الزيجات المدنية اللبنانية من كل الطوائف وأسّست آلاف العائلات بفضل قوانين الجزيرة المنفتحة المدنية.
 
لقبرص أيضاً موقع خاص لدى الكنيسة المارونية اللبنانية، وهناك مطرانية تتبع مباشرة لبكركي في العاصمة القبرصية وعلى رأسها مطران لبناني يمارس عمله، فأبرشية انطلياس المارونية عُرفت بأبرشيّة قبرص سابقاً، وبعدما انعقد المجمع اللبناني في دير سيّدة اللويزة سنة 1736 ضمّ إليها كلاً من منطقة بكفيّا وبيت شباب ومزارعهما، ثمّ باقي قرى المتن وصولاً إلى جسر بيروت. ثم، سنة 1986، انتُخب مطران جديد للأبرشيّة، بعد استقالة سيادة المطران الياس فرح. وسنة 1988، أقرّ مجمع الأساقفة قسمة أبرشيّة قبرص إلى أبرشيّتين: الأولى تتناول جزيرة قبرص وتحتفظ باسم أبرشيّة قبرص المارونيّة؛ والثانية تتناول رعايا أبرشيّة أنطلياس المارونيّة. إنتُخب على أبرشيّة قبرص سيادة المطران بطرس الجميّل وبعد وفاة الجميّل تسلّم المهمة المطران سليم صفير.
 
وفي حرب تموز 2006 شكلت قبرص قاعدةً خلفية للبنان. ففي ظل إقفال مطار بيروت الذي تعرّض لقصف إسرائيلي، انطلقت سفن إجلاء من بيروت ونقلت الرعايا الأجانب إلى الجزيرة ليغادروا بعدها إلى بلدانهم. كما نقلت مئات العائلات اللبنانية التي عاشت في قبرص لفترة موقتة، في انتظار انتهاء الحرب، وبقي منها جزء غير قليل.
 
وفي عام 2019 بعد الأزمة وما تلاها من انفجار مرفأ بيروت كانت قبرص واجهة لآلاف اللبنانيين الذي توجّهوا إلى الجزيرة للإقامة الدائمة أو الموقتة وعجّت المدارس التي تتبع المنهاج الفرنسي بمئات الطلاب اللبنانيين الذين هربوا من لبنان نظراً إلى نقص الخدمات من كهرباء ومحروقات، كما شهدت الجزيرة نمواً لافتاً في استثمارات اللبنانيين طمعاً بالجنسية (ألغي نظام الجنسية أخيراً) والحصول على الإقامة الأوروبية (لا يزال العمل قائماً بها) للعائلة بكاملها لمن يستثمر بمبلغ 100 ألف يورو وما فوق، وهذا الأمر واكبته الحكومة القبرصية بإجراءات في 2020 وأطلقت مساراً سريعاً لتسجيل الشركات الأجنبية وأصبح الأمر يستغرق 10 إلى 15 يوماً لاكتمال قبول الشركات بدلاً من شهرين أو ثلاثة كما كانت الحال في الماضي.
 
وبحسب المدير العام لشركة "ستاتسكتيكس ليبانون" ربيع الهبر بلغت الاستثمارات اللبنانية في قبرص نحو 10 مليارات دولار، وهي مقسمة على 22 شركة عقارية بالإضافة الى مئات تجار العقارات وأصحاب المطاعم والمطوّرين العقاريين والشركات الناشئة وشركات الديكور وغيرها التي أقفلت فروعها في لبنان بعد الأزمة واتجهت الى الجزيرة اليونانية.
 
وفي الأرقام أيضاً يسكن قبرص حالياً نحو 20 ألف لبناني وتصدر السفارة القبرصية في بيروت بين 40 و60 ألف تأشيرة دخول سنوياً عدا عن اللبنانيين الذين يدخلون الجزيرة ويحملون تأشيرات شنغن الأوروبية أو لديهم جنسية ثانية، كما أن هناك أكثر من 20 ألف لبناني يتملكون شققاً في الجزيرة.

وفي هذا الإطار يقول الإعلامي اللبناني جورج عيد الذي تملك عائلته أراضي ومسكناً وأعمالاً في قبرص وجزء منهم يسكنون الجزيرة منذ سنوات طويلة، إن الدولة القبرصية عبر التاريخ فتحت أبوابها أمام اللبنانيين ولم تغلقها بوجه أحد وبنت أطيب العلاقات معهم.
 
ويضيف: "قبرص هي الحديقة الخلفية للبنان ومارست حسن جوارها بأفضل ما يكون ونحن من العائلات التي استضافتها قبرص وبيننا علاقات عميقة معها وعندما تقفل الحدود البرية ويضرب المطار ليس أمام اللبنانيين سوى قبرص".
 
ويضيف أنه في السنوات الأخيرة عشرات أو مئات الشركات اللبنانية استثمرت في قبرص في مجالات عديدة وخصوصاً في مجالات العقارات والشركات الناشئة والديكور والمطاعم بالإضافة الى شركات عالمية نقلت موظفيها اللبنانيين الى قبرص بعد الأزمة وانفجار مرفأ بيروت وجميعهم عاملتهم قبرص أفضل معاملة.
 
ويرى أن الهجوم على قبرص في هذا الوقت غير منطقي ولا يفيد لا بل خطأ فادح يضرّ اللبنانيين والتحرّش الدائم بدولة صديقة غير مفهوم بتاتاً وخصوصاً أن قبرص تساعد لبنان وتؤدي دور الوسيط، بالإضافة الى أنها تساعد الفلسطينيين والمساعدات التي وصلت الى غزة بحراً جميعها كانت عبر قبرص.
 
ويتخوّف عيد من المستقبل إذا بقيت التهديدات أو ترافقت مع أعمال أمنية وهناك سوابق في هذا المجال إذ اكتشفت قبرص قبل نحو سنتين خلية لـ"حزب الله" تعمل هناك، وإذا استمر التحرش "نخشى من إجراءات تطال اللبنانيين أو وضع كوتا محددة لهم بما يشلّ حركتهم ويقفل حديقتهم الخلفية وهذا ما لا نتمنّى أن يحدث".