مؤتمر بيروت 1: محطة تأسيسية تضع لبنان على جدول الاهتمام الإقليمي

بعد سنوات من الانهيار المالي والاقتصادي العميق، وفي ظل تحولات إقليمية قد تعيد رسم خريطة المنطقة، ينعقد مؤتمر بيروت 1 ليختبر قدرة لبنان على استعادة دوره الاقتصادي والاستثماري. فالمؤتمر لم يعد مجرد حدث اقتصادي عابر، بل هو محاولة حقيقية لكسر الحلقة النفسية التي خنقت البلاد منذ عام 2019، ولإحياء لغة اقتصادية غابت مع انهيار النظام المصرفي والمالي. ويبرز في السياق السؤال الأكثر إلحاحا: هل يمكن لبنان أن يعود إلى الدورة الاستثمارية من دون التقدم في مسار الإصلاحات؟ هذا المسار بات المعيار الذي ينظر من خلاله المجتمع الدولي والقطاع الخاص والاغتراب والمستثمرون العرب إلى واقع لبنان ومستقبله وقدرته على تحويل المبادرات إلى مؤسسات قابلة للحياة.

الواقع أن المؤتمر بدا حدثا يترجّح بين الرغبة في الإقلاع ومتطلبات الإقلاع. وقد ركز المتحدثون على محاور إصلاحية تهدف إلى إبراز ما تحقق من تقدم في ملفات طال اعتبارها عصية. لكن ذلك لم يمنع بروز أسئلة أساسية: هل يكفي جمع المستثمرين والوفود لإحداث تحول فعلي؟ وأين الخطط التنفيذية الجاهزة لاستيعاب أيّ اهتمام خارجي؟ فلبنان بلد تضررت ثقته المؤسسية إلى حد كبير، وهو ما يجعل أيّ استراتيجية اقتصادية رهينة الإصلاحات المالية والإدارية والقضائية. ومع ذلك، حاول المؤتمر إرساء مناخ نفسي ومهني جديد يعيد النظر في لبنان بوصفه مساحةً قابلة للعمل والانطلاق، لا بلدا غارقا في الخراب.

وقد أشار المتحدثون إلى خطوات أولية مثل تحسين الجباية، ورقمنة بعض الخدمات، والبدء بإصلاحات في قطاع الكهرباء، وتحديث إدارة المياه والطاقة، وتفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتطوير بعض الأطر القانونية الخاصة بالاستثمار.
لكن هذه الخطوات، على أهميتها، تبقى جزءا من صورة أوسع تتطلب إصلاحات أعمق تتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإصلاح المالية العامة، وتعزيز استقلالية القضاء، ومكافحة الفساد، وضبط الحدود، وتطبيق معايير الحوكمة والشفافية. فهذه الشروط تشكل الأساس الذي يطالب به المستثمرون والمانحون قبل الانتقال من الوعود إلى التدفقات الفعلية.

وقد حمل المؤتمر بعدا ديبلوماسيا مهمّا من خلال الحضور العربي الواسع الذي أعاد لبنان إلى النقاش الإقليمي في لحظة حساسة. وأكدت التغطية الإعلامية الكبيرة وعودة الاهتمام الخليجي والإفريقي والاغترابي أن "رأس المال اللبناني المنتشر في العالم ما زال ينظر إلى لبنان بحذر. فالبلد يواجه أخطارا كبيرة لكنه يختزن فرصا كامنة قد تعود إلى الحياة إذا استعاد بعض الاستقرار".

كذلك سلّطت جلسات المؤتمر الضوء على قطاعات واعدة مثل الصناعة، والسياحة، والتكنولوجيا، والطاقة، والمياه، والثقافة، ضمن مقاربة تهدف إلى الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج. بيد أن تنفيذ هذه الرؤية يتطلب دولة قادرة على صياغة السياسات وتنفيذها، لا دولة تكتفي بإعلان النيات، ويستوجب مؤسسات تعمل بانتظام لا مؤتمرات موسمية تتوقف عند حدود الكلمات الافتتاحية.

ورغم الفجوة بين الطموحات والإمكانات، يرى رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي شارل عربيد أن المؤتمر يبقى بمثابة "محطة تأسيسية" تعيد وضع لبنان على جدول الاهتمام الإقليمي، وخصوصا في ظل مؤشرات لتشكل نظام إقليمي جديد قد يعطي لبنان فرصا كثيرة.

وفي رأيه أن "عرض الإمكانات وتوسيع شبكات التواصل وإعادة إدخال الاغتراب في الدورة الاقتصادية بمثابة نقاط ارتكاز لمسار طويل يبدأ بالثقة قبل المشاريع".
وتكشف قراءة عربيد لنتائج المؤتمر عن واقعية لا تلغي الطموح. فهو يلاحظ أن "القيمة الكبرى تكمن في دينامية التواصل التي ولدت بين مئات المشاركين، وفي الحركة الكثيفة وراء الكواليس، وإمكان أن يتحول هذا الاختلاط المهني والاجتماعي إلى شبكات تعاون تنتج لاحقا فرصا عملية". هذا النوع من التفاعل يمثل، وفق ما يقول لـ"النهار"، "المرحلة الأولى لأي تراكم استثماري، حتى لو لم ترصد مشاريع فورية ومحددة". 

ويشير عربيد الى مقاربة توازن بين الحاجة إلى الاستثمار الخارجي وملفات إعادة الإعمار واستعادة الثقة المالية. فالمسارات الثلاثة، في رأيه، لا تتعارض، بل تتكامل في صورة بلد يحاول أن يخرج من أزمته عبر بوابة إنتاج رؤية جديدة لنفسه. 

ويشدد على أن "قيمة المؤتمر لا تتعلق بإنتاج مشاريع فورية بقدر ما تتجلى في الحركة الكثيفة التي شهدتها الجلسات وكواليسها، وفي اللقاءات التي جمعت مئات المشاركين الذين لم يجتمعوا سابقا، ما فتح قنوات تواصل جديدة بين رجال أعمال ومستثمرين ومهنيين من الداخل والاغتراب".

ويشكل "هذا التفاعل مادة أولية ضرورية لأي تراكم اقتصادي لاحق، حتى لو لم يظهر مردوده فورا".

ويلفت عربيد إلى أن المؤتمر لم يسعَ إلى عرض "لائحة مشاريع جاهزة"، بل إلى "تقديم مقاربة مختلفة تقوم على إبراز الإمكانات، وشرح ما تقوم به الوزارات، وإتاحة المجال للمستثمرين لاختبار جدوى القطاعات المعروضة". 

يبقى السؤال: هل يشكل المؤتمر بداية مسار قابل للتراكم، أو أنه مناسبة بروتوكولية قد تُنسى؟ الإجابة لا تزال معلقة على تقدم الدولة في ملف الإصلاحات أولا، وقدرتها على تحويل النقاشات إلى برامج قابلة للتنفيذ ثانيا.