المصدر: نداء الوطن
الكاتب: مريم مجدولين اللحام
الاثنين 29 أيلول 2025 07:09:08
كيف يمكن لمن يقدّم نفسه نموذجًا أخلاقيًا أن يجعل من الشتيمة لغته اليومية؟
حين يتحوّل الذم إلى لسان حال جماعة، فهذا يعني أنّها لم تعد انفلاتًا فرديًا بل ثقافة مُعَمَّمة. اختيار واعٍ تُستبدل فيه اللغة السياسية بلغة التحقير، والمُحاججة المنطقيّة بحديث "الشطافات"، ويُستغنى عن الحوار بالمعايرة الشخصية.
في العمق، هي ليست لغة "الأقوياء" بل لغة من يدرك أنّ شرعيته معلّقة على فوهة بندقية، فيستعين بقمامة الكلام واهبًا ذاته وهم الهيبة.
المجتمع الذي يفاخر بلسان ملوّث لا يستطيع أن يقنع أحدًا بأنّه نموذج نقاء. فهل ننحدر لمبارزة بالقذارة؟ "ما بيشبهونا". لا نصف هنا اختلافًا سياسيًا فقط، بل فجوة ثقافية وأخلاقية. لا يشبهنا من يجعل من الهجاء هوية، ثم يزعم أنّه الطهر المتجسّد حزبًا وقادة تحرير.
الخطاب المليء بالقذف والتحقير لا يبني شرعية، بل يفضح العجز، أخلاقيات تتهاوى عند أوّل ذكرى "جامعة".
الأدهى أنّ هذا السلوك يُغلَّف بادّعاء "الشرف". وكأن الشرف كلمة فارغة يمكن أن تعيش جنبًا إلى جنب مع القذف والسباب والتطاول. أي شرفٍ هذا الذي لا يقوى على التصرّف بحدّ أدنى من احترام الخصم؟ أي شرفٍ هذا الذي يُقاس بعدد الشتائم لا بعدد الإنجازات؟
كلما رُفع إصبع، من على صخرة أو شاشة هاتف، ازداد الانكشاف الأخلاقي. نعيش نحن في قاموس آخر، في لغةٍ تعرف أن السياسة نزاع بالحجة وأن الفوقيّة لا تعكس ثقة بالخط الأصح؛ وفي الغالب هي قناعٌ على شعورٍ دفين بعدم القبول... ومن لا يطلب القبول يُلغيه، على سبيل المثال لا الحصر القول إنه "لا أحتاجكم لتمنحوني الشرعية، سلاحي هويّتي وروحي وما يكفيني". و"ما بيشبهونا" تخلع القناع عن القناع عن القناع، لتقول إن حضوركم بهذه الأخلاقيات السّامة، مهما علا صوته، لن يحظى باعتراف من الجماعة الوطنية الأوسع. وهذا موجِع حتمًا. فالشيعي في لبنان، مثلنا تمامًا، فردًا وجماعة، يحتاج أن يُرى ويُقبَل. لذا حين كشف رحيل السيد حسن نصرالله، أن الآخر اللبناني يضع مناصري "حزب الله" خارج نسيجه الرمزي، يتقلّب غضبًا فيشتم ويهين ويهاتر ولا يتّجه لمعالجة الأسباب فيضحى، صورة مزيفة لقاتل وشهيد على صخرة، قوّة بلا ودّ، وحضور بلا اندماج.
ما بيشبهونا...
ليست الجملة الأكثر تداولًا بين اللبنانيين شتيمة، بل هي تشخيص. حدّ فاصل بين مشروعين للحياة العامة، مشروع دولة تُدار بالتوافق والقانون والاحترام المتبادل، ومشروع غلبة يُدار بمنطق السلاح والشتائم والسفاهة والاستعراض وفرض الأمر الواقع.
حين يُقال "ما بيشبهونا" لا تكون النية إلغائية، بل توصيفًا لواقع اختلّت فيه الموازين. انتشار الخمينية في لبنان حوّل شيعة "حزب الله" ونهجه، من جماعة تبحث عن شراكة داخل الكيان، إلى رأس حربة في مشروع إقليمي. وبذلك، فُقد التشابه مع باقي مكونات لبنان، لأن معيار الولاء تغيّر. الشيعي قبل الخمينية، أمل وطنًا ومؤسسات، فتلقفته عقيدة الوليّ الفقيه توسّعيًا. هذا التقصير من الدولة، أخرجهم من منطق "نحن شركاء تعايش" إلى منطق "نحن شعب الولي المختار، من دوننا لم تكن لتعيش... فتعايش بقواعدنا، نحن من اصطفانا الولي أهلًا وحلًّا لقضية الأمة... الأكبر منك ومن لبنانك"... وصاروا "ما بيشبهونا".
حين تُهان رئاسة الحكومة بصفتها موقعًا سنّيًا وركنًا من توازن الطائف الذي يدعي أمين عام "حزب الله" أنه السقف، وحين تشيح بوجهها رئاسة الجمهورية عن هذا الانحدار الدائر إعلاميًا وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، فإن اختلالًا ميثاقيًا يتكرّس. التوازن ليس نصوصًا في دستور؛ بل هو سلوك يوميّ يبدأ عند احترام المقامات، والكفّ عن التحريض، وتقديم الدولة على مصالح المربعات الأمنية.
و"ما بيشبهونا" هنا، تقول إن هذا السلوك الظاهرة - إهانة المقامات وشتم معارضي "حزب الله" من كل حدب وصوب - من المفترض أنه لا يُشبه أهل "سيد شهداء الأمة"، إذ يستحيل الجمع بين مناصرة المستضعفين في غزة، وبين استضعاف السنة في بيروت. ولربما، "ما بيشبهونا" ولا يشابهون ما يدّعون عن أنفسهم.
مدّع هو فعلًا، من يظن أن بيروت ستوقّع صكّ تنازل عن مدنيتها لمجرّد ضجيج الرايات والشتائم، يخطئ في قراءة ذاكرة مدينة عركت الحرب وعادت إلى الحياة بالمدرسة والجامعة والنقابة والمسرح، لا بمواكب شعارها "السيكي لح لح".
ما بيشبهونا...
باليُمنى تُرفَع عبارات "فتح صفحة مع السعودية" وطلب الإعمار، وباليسرى تُدار ماكينة تحقير ضد بيروت وموقعها السني في سدة رئاسة الحكومة. تناقض لا يُشبه منطق الشراكة ولا المواطنة ولا الإنسانية، فالكلام الرصين يفصل البشر عن غيره من فصائل خلق الله.
ومن يطلب شراكة الخارج ولا يحترم شراكة الداخل في شخص نواف سلام، لا يفقه نصيحة في صلب العلاقات الدولية، تقول: "إن أعمروا لغتكم أولاً". العمران لا يليق بفاجر.
قُطع الحبل السرّي بين ادّعاء "نحن ندافع عن لبنان" وحقيقة "نحن فصيل". أخطر خدع السياسة فشلت عند منصات وفيق صفا لقدح وذم نواف سلام وبيروت والسُنة. فشلت كل محاولات تحويل القوّة إلى قبول. القبول لا يُستَمدُّ من الخوف، ومن يفرض نفسه على العاصمة وعلى السُنة بالاستعراض والسُباب، يسمع من العاصمة ومن سُنة لبنان ما يستحق أن يسمعه كل مستعرض: حاضرٌ أنت في أدبياتنا قسرًا، مُغتصبًا. ومن يغتصب الرأي لا تلتفت إليه مرجعية عربية. الفصيل الفئوي يُحاصر دومًا.
تنظيمٌ يشتغل بمنطق امتلاك أدوات القسر أكثر من بناء عقدٍ اجتماعي لا يفرض نفسه على دول الخليج. الغلبة العسكرية على الداخل اللبناني، لا تُنجب له شرعية مع الخارج، و"ماما إيران" تفاوض على التقاط الأنفس.
ما بيشبهونا...
ليست دعوة كراهية، بل هي تحذير لنوع التعايش الذي نريد من الآن فصاعدًا. ما بيشبهونا لا تعني "أبحروا بعيدًا" بل تعني "طفح الكيل مع الشتّامين" إما قانون واحد، سلاح واحد، وخطابٌ يحترم المقابل، وإما دولة تُفرض على السفيه فلا يعلو على المؤسسات. حينها فقط يصبح الشبه ممكنًا، وتُصبح السياسة منافسة داخل قواعد، لا إذلالاً يطلب من المهانين فيه أن يتقبلوا واقعًا اكتفوه وكفانا المولى. كل منطق فوقيّ، وكل حملة تحقير، وكل صمتٍ متواطئ، سيجد أمامه هذه الجملة كمرآة... ما بيشبهونا... فالغاية دولة لا غلبة؛ مدينة لا ساحة؛ عقد لا أمر واقع.
هذه ليست قطيعة مع أحدٍ في الهوية، بل قطيعة مع سلوكٍ لا يليق ببلدٍ يريد أن ينهض. الطريق إلى الشبه واضح، احترام الدولة. وما عداه، لا يُشبهنا.