"ما تسمّونا ناجين نحنا الأحياء الأموات"... ظن أنه حمل رضيعه إلى سطح الماء ليجد بين يديه حرامه فقط

كتبت سعدى علوه في المفكرة القانونية: تغيّر الزمن في طرابلس منذ أن جاءت الأخبار الأولى عن فاجعة غرق زورق الهجرة حاملاً 84 من أبنائها وبناتها وأطفالها بينهم فلسطينيون وسوريون، هم أبناؤها أيضاً، على ما يقول أحد مخاتيرها محمد السبسبي، فعاصمة لبنان الثانية طالما كانت أم الفقير، كل فقير. تغيّر الزمن في الفيحاء وذاب الفرق بين الليل والنهار، إذ كيف لمدينة أن تنام مع حلول الظلام ولا يزال 33 من أولادها في غياهب الموج، جُلّهم من النساء والأطفال. وكيف لعينها أن تسهو فيما أهلها لا يعنيهم مرور الوقت، يلازمون الشاطئ من القلمون إلى حدودها مع بحر عكار يراقبون أي جسم في الماء بحثاً عن فلذات أكبادهم. 

وفي طرابلس تغيّر مفهوم الأمل “لو بترجع لي لو شقفة صغيرة من أولادي أدفنها بقبر حدّي” يقول الشاب العشريني وكأنّه يهذي وهو يروح ويجيء أمام مرفأ طرابلس. يصرخ الشاب بكلّ من يقترب منه ليسأله عن حاله، فيما يقول صديقه الذي يلاحقه كظله إنّه أرسل زوجته مع أطفاله الثلاثة على أمل أن يلحق بهم عندما يستقرّون في إيطاليا، فلم يعد منهم “مين يخبّر”.

وفيها، في “أم الفقير” تغيّر شكل العيون أيضاً، ومعه نبرة الصوت وحال الناس. صارت الحدقات حمراء متورّمة فيما يغصّ المتحدثون في كلّ محطة كلام، وقد يعلو النشيج وفقاً لصلة القرابة مع الغائبين المفقودين، ولا يمضي وقت طويل حتى تلمس الهشاشة المستجدة في من دعكتهم الحياة في الشمال المتروك المعتاد على شظف العيش وصعوباته والكدح المستمر.

وفي طرابلس تغيّرت المفاهيم “ما تسمّونا ناجين” يقول عميد دندشي (38 عاماً)  الذي عاد حياً مع زوجته فيما بقي أولاده أسد (40 يوماً) وفداء (5 سنوات) وجواد (8 سنوات) في الماء. كيف لأب ظنّ أنه حمل طفله الرضيع وصعد به إلى سطح الماء ليجد بين يديه حرامه فقط فيما حمل الموج الصغير إلى البعيد أن يعتبر نفسه ناجياً. “نحن الموتى الأحياء، أرجوكم لا تسمّونا ناجين، نحن موتى بقيت أرواحنا في البحر”، يقول لكلّ من تجمهر من حوله.

وقبل صباحات الفيحاء، تغيّرت أمسياتها في الشهر الفضيل، الشهر الذي تتزيّن له طرابلس كعروس، يقولون إنّها عروس رمضان، عروسه التي تتماهى مع ناسها وأحيائها الشعبية. تضيء شوارعها وأزقتها وتسيّر عربات الفول والحمص والترمس والعرانيس، وترتّب بسطات صاج المناقيش والسحلب والمهلبية، فيما تزدهر أعمال أفران كعكها الشهير وتتحوّل محلات حلوياتها إلى مقصد اللبنانيين من كل حدب وصوب، فيما تصير مقصد الباحثين عن الطعم الحقيقي لرمضان وطقوسه ومعنى الصوم والصلاة ونوافل الليل والأدعية فيما تصدح مساجدها بصلاة الفجر تزامناً مع عودة الصائمين إلى منازلهم. كسر غرق الزورق روتينها الرمضاني وبركته، وتوجّهت الأدعية ابتهالات تتوسّل العثور على الغارقين قبل أن يتحوّلوا طعاماً للأسماك. 

وصباحات طرابلس ليست بخير. على جسر نهر أبو علي، وتحديداً عند نقطة التقاء المفارق التي تؤدي إلى التبانة يساراً أو إلى القبة صعوداً حيث تصل منها إلى البقار وحي ريفا، أو للالتفاف يمنة نحو الزاهرية، حيث غالبية الضحايا من هذه المناطق، غابت خلية النحل التي تعجّ بالخارجين إلى أعمالهم أو إلى البحث عن عمل، بزحمة سوق الخضار وتجاره صغاراً كانوا أم كباراً، بنسوتها الخارجات إلى التبضّع لتحضير الإفطار… هناك حيث مقبرة الغرباء قريبة، ومعها جبانة التبانة حيث ووري أربعة من ضحايا الزورق في ثراها، يعج المكان بسيارات محملة بغصون الريحان، بدل ألعاب الأطفال وهدايا العيد. قد لا يكفيها ريحان كلّ لبنان لتوديع أطفالها ونسائها ورجالها.

 

التبانة صباح اليوم

وطرابلس ليست بخير مع “الوطن” كبلد وجيش. ليست بخير مع عنصر الجيش الذي تكاد لا تخلو شرفة من شرفاتها من بدلة عسكرية له، كما جارتها عكار. طرابلس عاتبة على الجيش في ظلّ روايات “الأحياء الأموات” الذين عادوا من البحر، “الناجين” الذين تتوحد التفاصيل التي يحكونها عن مسؤولية للجيش في غرق زورقهم. تفاصيل تغذّي الغضب وتوسّع المسافة-الهوّة بينها وبين الجيش اليوم. الجيش الذي تجد حواجزه على كلّ ناصية شارع، فيما تنتشر نقاطه المعززة بكتل الإسمنت والآليات على مداخل المناطق الشعبية.

وحده التحقيق الشفاف والجدي الذي يؤدي إلى الحقيقة الساطعة في تحديد المسؤوليات يشفي غليل أهلها ومعهم كل اللبنانيين. هناك لم يقنعهم المؤتمر الصحافي الذي عقدته القيادة البحرية تنفي فيه مسؤولية عناصرها وضباطها عما حدث. كيف ذلك وبينهم 45 ناجياً وناجية تتطابق أقوالهم حول ما جرى “ضربنا مركب الجيش” هو ما يصرّون عليه كبداية لرواية مأساتهم: “كنا منقطع المياه الإقليمية بعد 10 دقايق، شو بدهم فينا؟ ليش حال الجيش أفضل من حالنا؟ معاش العسكري لبيطلع 40 دولار أحسن من مدخولنا؟ ليش هو قادر يتحكّم ويطعمي اولاده؟ عم يلاقي دوا لأهله وإذا لقيه قادر يشتريه؟ مش عم ينطر بالصف الطويل ليشتري ربطة الخبز؟…”. تطول لائحة الذل التي يعددونها ويتشاركونها مع العسكري، والأهم كدافع للهجرة سعياً وراء الحياة الكريمة.

ليس الجوع ما دفعهم لرمي أنفسهم واطفالهم في البحر “فشروا نكون جوعانين، ما حدا بيجوع، مناكل خبز حاف وما منجوع، بس بدنا نأمن حياة كريمة لأطفالنا ومستقبل كمان، كان بدنا اولادنا يصيروا ناجين من هيدي السلطة مش نحن ناجيين من الموت، وهن يموتوا”، يقول عميد دندشي بعدما غسل شبان الحي وجهه وأصروا عليه ليشرب نقطة ماء فيما دلّك أحمد، صديق طفولته كتفيه، وترضّت عليه أمه، الثكلى بأحفادها، ليهدأ فيما كان جسده ينتفض غضباً “مين بيعوضني ولادي؟ 40 يوم و5 سنين و8 سنين؟”. يقسّم عميد الأربعين يوماً والخمس والثماني سنوات إلى أيام ومن ثم إلى ساعات “هودي كلهن عشتهم معهم، هودي كيف بدي إتعامل معهم كلهم؟”.

بالقرب من عميد تجلس والدته، أم جهاد، المرأة الثمانينية التي لا تعرف من تضم من أبنائها الثلاثة: هذا رائد الذي نجا قد عاد لتوه من المستشفى الحكومي حيث تعرّف إلى جثة ابنه البكر بهاء (11 عاماً)  بينما لا تزال زوجته حورية كريمة مع طفلتهما غزل في عداد المفقودين. 

تترك أم جهاد رائد لتقبّل جبين بلال الذي عاد “عاري الروح”، كما يقول عن نفسه. عاد وحيداً تاركاً ليث ورزان في حضن أمهما منيرة المصطفى، منيرة التي نقل عنها أحد الناجين أنّها كانت تتشهّد فيما تطبق بذراعيها على طفليها لتردّ عنهما المياه التي تجتاح الزورق.

وهذا عميد، صغيرها، صغير أم جهاد، يقبّل يدها كلما قالت له “الله يصبّر قلبك يا أمي” ففداء طفلته ذات الخمسة أعوام لم تكن طفلته المفضلة فقط، بل كانت أيضاً حفيدتها التي تحمل بعضاً من ملامحها “كانت تشبه ستها”، تقول جارتها وهي تشرف على توزيع الكراسي في البيت المقابل لحي بيت دندشي حيث سيقام العزاء.

هناك، تتجمّع العائلة التي كانت “كبيرة” قبل مأساة الزورق حيث خسرت 9 من أفرادها، تجلس الجدة أم جهاد وبقربها الجد أبو جهاد، يجولان بأعينهما في المكان الذي كان يعج بالأحفاد، ببهاء الذي ووري الثرى أمس الإثنين، بغزل، شقيقته الصغيرة، وبأبناء عمومته ليث ورزان وجواد وفداء والرضيع أسد. وهناك أيضاً تتجمع عائلتا كنّتيها حورية كريّمة ومنيرة المصطفى، كيف لها أن تسترجع في أيامها الأخيرة كل تلك الوجوه الصغيرة التي كانت تأتيها صباحية العيد تقبّل يديها فيما تسحب من جزدانها العيدية التي كانت تقسمها على عددهم الكبير، كيف للفرحة أن تعود إلى بيتها الواسع، كيف لها أن تتعامل مع أصواتهم وضحكاتهم التي لن تصدح من حولها بعد الآن.

“كتير عليي يا بنتي، أنا الختيارة لي كنت مبسوطة بكل أولادي وأحفادي حولي، تكون أكبر أمنية عندي بآخر عمري إنه يلاقوا هالصغار وكون إقدر إبكي ع قبر أعرف إنّه إلهم”، تهمس وهي لا تريد أن يسمعها رائد أو بلال أو عميد، أبناؤها “كيف بدي داوي قلوب أولادي، كتير هالقد يا ربي”.