المصدر: النهار
الكاتب: ابراهيم بيرم
الثلاثاء 7 تشرين الثاني 2023 08:01:09
عززت الغارة التي نفّذتها مسيّرات اسرائيلية مساء أول من أمس على سيارتين مدنيتين على طريق يصل عيناتا ببلدة عيترون الحدوديتين بالقرب من بنت جبيل والتي أودت بحياة ثلاث فتيات وجدّتهن، المخاوف من انفلات الاوضاع العسكرية المحتدمة على طول الحدود الجنوبية منذ شهر، على نحو يتعدى نطاق المواجهات العسكرية المضبوطة والتي بدت كأنها تكرست منذ اليوم الثاني لإطلاق حركة "حماس" عملية "طوفان الاقصى"، وهي المواجهات التي انتقلت من تراشق الى مشاغلة وتطورت لاحقاً لتمسي حرب استنزاف جدية.
وظلَّ الامر على هذا المنوال الى درجة ان بعض الخبراء الاستراتيجيين بدأوا يتحدثون عن ترسيخ معادلة حدودية فحواها:
- امتناع "حزب الله" تحت وطأة التهديدات الاميركية والانذارات الغربية المكثفة عن المضيّ قدماً في "مغامرة" تفضي الى حرب مفتوحة مع الاسرائيلي.
وفي المقابل، تكتفي تل أبيب بالرد الموضعي معطية تعهداً مضمراً بعدم الانجرار الى ما هو أبعد على نحو يؤدي الى تكرار تجربة حرب عام 2006.
وثمة مَن وجد في طيّات كلام الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله في اطلالته الجمعة، دليلاً على التزام الحزب بمندرجات تلك المعادلة الدقيقة، خصوصا عندما اوحى انه لن يكون عند ظنِّ الذين تصوروا ان الرجل سيعطي الامر بفضّ الأقفال عن مخازن ترسانة الصواريخ التي يمتلكها حزبه إيذانا ببدء المعركة الفصل.
وبعد وقت قصير من هذا الكلام شرع قسم كبير من ابناء البلدات والقرى الحدودية الذين نزحوا سابقا بالعودة الى ديارهم ومزاولة حياتهم اليومية.
ولكن المخاوف من تطورات ميدانية متفجرة، بعد تلك المجزرة، وهي الاولى من نوعها في الجنوب في الحرب الدائرة حاليا، لم تستمر إلا ساعة وبعض الساعة، خصوصا بعدما امتنعت آلة الحرب الاسرائيلية عن الرد المباشر والعاجل على صواريخ "غراد" قيل إنها معدلة ومحدثة اطلقها مقاتلو الحزب للمرة الاولى واستهدفت مستعمرة كريات شمونة في الجليل الاعلى المحتل المحاذية للاراضي اللبنانية.
ولقد وجد الراصدون للأوضاع في الأداء الاسرائيلي الصامت والمتعقل دلالة جلية على أمرين اثنين:
الاول، ان تل أبيب ما زالت مذعنة للتوجهات والتحذيرات الاميركية الحازمة التي أملتها علانية على الحكومة الاسرائيلية في الساعات الاولى من بدء حرب غزة والتي طالبتها فيها بتحاشي الإقدام على أي أمر أو فعل من شأنه ان يفتح ابواب المواجهة الشاملة مع "حزب الله" المنتشرة قواته ومرابض مدفعيته وترسانات صواريخه على طول الحدود الجنوبية، لان ذلك سيجرّ الاوضاع نحو حرب اقليمية غير مضمونة النتائج.
الثاني، ان الحزب نفسه ما انفك قابلاً الالتزام بمضامين معادلة الصراع المحدود والمضبوط.
وفي الموازاة، احتاج الحزب الى نحو 26 يوما ليعلن صراحة على لسان أمينه العام انه قابل بحدود هذه المعادلة لكن شرط أن يتاح له القيام بحراك ميداني حدودي يظهر عبره انه في الجبهة المساندة لحركة "حماس". وهو ما وجد له أحد منظّري محور المقاومة والممانعة لاحقاً مصطلحاً تبريرياً عنوانه العريض: تمكين الحليف في المحور وليس الحلول محله، ضارباً لذلك أمثلة في ما حصل سابقا في ساحات العراق واليمن وفي ساحة لبنان عام 2006.
واللافت ان الحزب سعى على رغم ادائه الميداني المضبوط هذا الى أن يبيّن لمن يعنيهم الامر انه مستعد لكل الاحتمالات الممكنة وكل الخيارات المنتظرة بما فيها الذهاب نحو الاحتمال الاخطر والاكبر وهو المضيّ نحو المواجهة المفتوحة.
لذا كان الحزب مضطراً طوال ايام الشهر الماضي الى ان:
- يخسر المزيد من العناصر المقاتلة عنده وهو يؤكد تصميمه على تسخين الحدود ومشاغلة قسم من الجيش الاسرائيلي، وبمعنى آخر ليترجم المقولة التي اطلقها منذ اليوم الاول ومفادها انه ليس محايدا في معركة حركة "حماس" بل هو شريك فيها.
- ان يثبت يوميا ان عليه ادخال عنصر عسكري جديد في المواجهة كمثل إدخال المسيّرات ثم إدخال صاروخ "بركان" ذي الطاقة النارية الكبرى، فضلاً عن إدخال الصواريخ الموجهة وقذائف الكورنيت.
وبمعنى آخر، كان الحزب يعرف تماما حدود المسموح له، ويعرف في الوقت عينه ان يد اسرائيل ليست طليقة تماما بفعل الخط الاحمر الاميركي، لذا كان عليه واجب ان يقدم يوميا البراهين على أمرين:
الاول انه يمتلك زمام المبادرة، فهو الذي يملك حرية اطلاق الطلقة الاولى.
الثاني ان الاسرائيلي هو في موقع رد الفعل ليس إلا.
ولاحقا بدأ الاسرائيلي يرفع الصوت اعتراضا على هذه القسمة غير العادلة. وقد برز ذلك من خلال الاعلام العبري الذي اعترف بان "الجيش الاسرائيلي محبط وهو في دور رد الفعل، وان يد نصرالله هي العليا وليست يدنا".
وبناء على كل هذه الوقائع، أتت مجزرة عيناتا لتشكل نوعا من الصدمة لجمهور الحزب وللبنانيين عموما انطلاقا من ان ثمة معادلة قد دخل الاسرائيلي طور السعي الجاد لترسيخها وجبّ ما قبلها من معادلات.
غير أن للخبير الاستراتيجي العميد المتقاعد الياس فرحات رؤية مغايرة، اذ يستبعد اساسا ان تكون هناك معادلة ثابتة قائمة اصلاً لكي يقال ان ثمة من خرقها او كسر قواعدها او يعمل على شطبها تمهيدا لمعادلة جديدة. وفي رأيه ان احتمالات توسع المواجهات والاشتباكات هي احتمالات واردة دوما بين طرفين عدوين بينهما هذه الحدود الضيقة، ويمارسان منذ عقود تبادل التحدي والاستفزاز والحشد والتعبئة اليومية، ويتوعّدان بعضهما البعض تمهيداً لساعة الفصل ومعركة الحسم.
ويضيف فرحات "ان ما حصل هو ان المقاومة تخطت حدود المعادلات المزعومة عندما بادرت اول من امس الى قصف مستوطنة كريات شمونة الكبيرة نسبيا مستخدمة صواريخ الغراد، وهذا يعني عسكريا ان الحزب قد زجّ في المعركة نوعا من السلاح يتعين ان يكون بموجب القرار الاممي الرقم 1701 قد سحبه من التداول ووضعه في المخازن، فضلاً عن ان المستوطنة التي قُصفت هي عمليا ضمن نطاق ما يُعرف بأراضي الـ 48، ويفترض والحال هذه ان هذا الفعل هو تطور كاسر للمعادلات".
ويخلص فرحات: "صحيح ان المقاومة على الحدود الجنوبية تخوض عمليا حربا، وصحيح ايضا ان رد الحزب على المستوطنة اياها هو فعل تنطبق عليه مندرجات تفاهم نيسان في العام 1996، إلا ان طبيعة المعركة حاليا سواء في غزة أو عند الحدود الجنوبية تؤكد أمرين:
- ان المقاومة لن تقف مكتوفة أمام ايّ فعل اسرائيلي.
- وانها على جهوزية تامة للرد.
وهذان الأمران يفتحان الأبواب أمام احتمالات توسع المعركة ونطاق المواجهات لتسقط بذا كل المعادلة التي يجري الحديث عنها".