المصدر: المدن
الكاتب: بتول يزبك
الخميس 24 نيسان 2025 00:37:41
لطالما شكَّلتِ الانتخابات البلديّة في لبنان مختبرًا مُصغَّرًا للديمقراطيّة؛ إذ تُمتَحَن فيها قدرة الناس على إدارة الشأن المحلّي بعيدًا عن الاصطفافات الكبرى، وتنبثقُ منها أفكارٌ تنموية تُقاس بالإسفلت والإنارة وشبكات الصرف الصحيّ أكثر مما تقاس بالخطابات العالية. غير أنّ المقترحاتِ الثلاثةَ المطروحةَ أمام مجلس النواب غدًا الخميس -التي تُدخِل نظامَ اللوائح المقفلة مع فوزٍ أَكثَريٍّ شاملٍ في عشرات البلديات، وفي طليعتها بيروت- تنقل هذا الاستحقاقَ من ميدانه الإنمائيّ إلى حلبة الصراع السّياسيّ المباشر، وتفتحُ الباب واسعًا أمام الأحزاب التقليديّة كي تُحكم قبضتَها على المجالس. فإقفال اللوائح واستبدال "المحاصرة" التنمويّة بمبارزة عدد الأصوات يجعل الاقتراع أشبه باستفتاءٍ على زعامةٍ واحدة، ويُنهي أيّ هامشٍ للتعديل أو التشطيب أو التحالف اللحظيّ الذي عُرِف عن البلديات منذ أربعينيات القرن الماضي.
تعديل "اللحظة الأخيرة"
تأتي هذه المعركة فيما لا يزال الاستحقاق نفسه مُهدَّدًا بالتأجيل للمرة الرابعة منذ 2022، بعدما أُقِرَّت مواعيد متدرّجةٌ على أربعة أيامٍ في أيار 2025، ثم وُضِعت موضعَ الشكّ بطرح تعديلات اللحظة الأخيرة. في وقتٍ يخشى فيه مراقبون بأنّ التشريعَ الفوريَّ عشيّةً الانتخابات يَضرب معيارَ الاستقرار القانوني الذي تُطالِب به المحكمةُ الدستوريةُ العليا في تجاربٍ مُقارِنةٍ عدّة، ويُعرِّض النتائجَ للطعنِ المسبَق. ومع ذلك تمضي الكتلُ البرلمانيةُ قُدمًا، مُبرّرةً الأمرَ بالحاجة إلى "حماية العيش المشترك" أو "رفع فعالية الحكم المحليّ" أو "تمكين النساء"، تبعًا لتنوّع العناوين المستخدمة.
جوهرُ التعديلِ المقترَح هو نقلُ لبنان، في البلديات الكبرى على الأقل، من نظامِ الاقتراعِ الفرديِّ المفتوح إلى لائحةٍ مقفَلةٍ تفوزُ بكامل المقاعد إذا حصلت على أكثرية الأصوات، ولو بفارقٍ ضئيل. هذا الدمجُ بين القائمةِ المغلقةِ والقاعدةِ الأَكثَرِيَّةِ يُعَدُّ نادرًا عالميًّا؛ فالقائمةُ المغلقةُ تقترن عادةً بالتمثيل النسبي، بينما تُطبَّق قاعدةُ "الحاصل الأكبر يفوز بكل شيء" على لوائحَ مفتوحةٍ أو على دوائرَ أُحاديةِ المقاعد. ووفقَ دراسةٍ لــ"بِنِت إنستيتيوت" في كامبريدج، يُفضي هذا المزيجُ إلى أعلى درجات التشوّه بين نسبة الأصوات ونسبة المقاعد، ما يَضرب مبدأَ العدالةِ التمثيلية. كما يُذكِّر تقريرُ "منظمة الإصلاح الانتخابي" البريطانية بأنّ ثلاثًا وسبعين دولةً حول العالم تستخدم القوائمَ المغلقة، ولكن في نظامٍ نسبيٍّ، بينما تُعَدُّ استثناءً تلك التي تجمع القوائمَ المغلقةَ مع حسمِ مقاعدِ المجلس دفعةً واحدةً أو مع "Bloc Vote" .
تفاصيلُ المقترحاتِ الثلاثة
تزيد تفاصيلُ المقترحاتِ من وضوحِ النية السّياسيّة. اقتراح النائبين مارك ضوّ ووضّاح الصادق يَحصُرُ القوائمَ المقفلةَ بالبلديات التي تضمُّ ثمانيةَ عشرَ عضوًا فما فوق، ويستعينُ بتأجيلٍ تقنيٍّ حتى نهاية تشرين الأول 2025، مع تخصيص ثلثِ المقاعد لكلٍّ من الجنسين وإدخالِ المغتربين في القرى الجنوبية المُدمَّرة. أمّا اقتراحُ "لبنان القويّ" فيذهب أبعدَ؛ فيُعمِّم اللوائحَ المقفلةَ على كافّة البلديات التي كانت مشمولةً بالقانون 63/29، ويكرّس مبدأَ المناصفة في بيروت مع تركِ تفاصيلِ التنفيذ لوزير الداخلية. والاقتراحُ الثالث الذي قدّمه ستةُ نوابٍ عن بيروت في 14 نيسان يقفل اللائحةَ على أربعةٍ وعشرين اسمًا ويمنحها الرئاسةَ ونائبَها دفعةً واحدةً، ويجيز للوزيرِ الحلولَ محلَّ المحافظ إذا عطّل القراراتِ البلدية، ما يعني عمليًّا إعادةَ السلطةِ التنفيذيّة إلى الوصاية المركزية.
يُقدّم أنصارُ الطرح أربعَ حججٍ أساسيّة: أوّلًا توحيد البرامج وتفادي الانقسام الداخلي الذي عطّل بلديةَ بيروت بعد دورة 2016؛ ثانيًا فرضُ كوتا جندرية تُعالِجُ ضآلةَ تمثيل النساء (8٪ في دورة 2016) عبر اشتراط حدٍّ أدنى من المرشحات؛ ثالثًا تسهيلُ اللوجستيات بفضل اللوائح المطبوعة مُسبقًا، ما يخفض الكلفةَ ويُقلّل الأخطاء؛ رابعًا الحدُّ من "سوق التحالفات" التي تُعقَد بعد إعلان النتائج لانتخاب رئيس المجلس.
اقتراح اللائحة المقفلة
في هذا السّياق، يُشير الكاتب والمسؤول السّابق في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لدعم الانتخابات، نزيه درويش، في حديثٍ إلى "المدن" إلى أنّ جميع هذه المشاريع تتفق على اعتماد القوائم المغلقة كنظامٍ انتخابيّ، وأنّ الاقتراعَ سيكون وفقَ النظامِ الأكثري؛ فلم يطرح أحدٌ نظامَ التمثيلِ النسبي.
ويُفنّد درويش المقترحات بالقول: "تتفاوت مشاريع تعديل قانون البلديات بين ثلاثة اتجاهات رئيسة. فمشروع "لبنان القوي" الذي اقترحه جبران باسيل يعتمد اللوائح المقفلة ويُبقي النظام الأكثري في جميع الدوائر، مع حصر مبدأ المناصفة الطائفية في العاصمة بيروت فقط، من دون المساس بصلاحيات المحافظ. أمّا مشروع "مخزومي-حاصباني-الجميل" فيربط اعتماد اللوائح المقفلة بالبلديات التي يزيد عدد أعضائها على خمسة عشر، ويُبقي أيضًا النظام الأكثري والمناصفة في بيروت، لكنه ينقل جزءًا من صلاحيات المحافظ إلى وزير الداخلية في محاولة لتخفيف التركّز الإداري. ويتقدّم مشروع النائب وضّاح الصادق بخطوة إضافية؛ إذ يعتمد اللوائح المقفلة للبلديات التي يزيد عدد أعضائها على ثمانية عشر، ويُبقي النظام الأكثري على امتداد البلاد، كما يُلغي نصّ المناصفة كليًّا ويتجنّب تعديل صلاحيات المحافظ، متضمِّنًا إصلاحات تحديثية مثل كوتا جندرية بنسبة 30% واعتماد لوائح مطبوعة سلفًا".
ويستعرض درويش إيجابيات وسلبيات المقترحات بالقول: "هذا التنوّع ينعكس إيجابًا وسلبًا على كلّ مقترح. فحصر اللوائح المقفلة في مشروع باسيل على كامل لبنان قد يدرأ الطعون أمام المجلس الدستوري بذريعة عدم المساواة بين الناخبين، لكنه يترك المسائل الإدارية العالقة بلا معالجة واضحة. في المقابل، يمنح مشروع مخزومي صيغة وسطية بين الانفتاح والإلزام، غير أنّ حصر اللوائح المقفلة بحجم المجلس البلدي قد يعيد إنتاج التمييز، كما قد يثير نقل صلاحيات المحافظ حفيظة المدافعين عن اللامركزية. أمّا مشروع الصادق فيُخرج النصّ من القيد الطائفي ويقدّم عناصر إصلاحية جريئة، لكنّ إلغاء المناصفة قد يتعارض مع فلسفة التعديلات الأصلية، ويشترط تأجيل الانتخابات حتى 13 تشرين الأوّل، بما يضاعف مخاطر الإرجاء. هكذا يظهر أنّ كلّ اقتراح يحاول تحقيق توازن بين الحدّ من التمييز وتحديث الإدارة، إلا أنّ تسوية شاملة ما زالت تحتاج إلى معالجة مسألتي الصلاحيات والتوقيت لضمان استحقاق انتخابي مستقر وعادل".
ويقول درويش: "من وجهة نظري، لا يُعَدُّ اعتمادُ القوائمِ المغلقةِ خطوةً خاطئةً، بل هو تحوُّلٌ إصلاحيٌّ يُفضي إلى مجالسَ بلديةٍ أكثرَ تجانسًا براغماتيًّا، إذ يتركَّز الاختيارُ على البرامج الانتخابية بدلًا من التفرد الفردي". ومن المهم، برأي درويش، الإشارةُ إلى أنّ الاقتراحَين الأوَّلَين لم يتضمّنا نصًّا صريحًا للمناصفة في القانون، وإن كانت الممارسة العُرفية تطبّقها. أمّا قانونُ البلديات الحالي فقد ألغى القيدَ الطائفي وأدخل للمرّة الأولى مبدأ المساواة بين عددِ أعضاءِ المجلس من طائفتَين في بلديةِ بيروت.
"وهذا ما أعدّه انتكاسةً؛ فالواقعُ العُرفيُّ أساسًا فرض مبدأ المناصفة، واليوم وضعه داخل القانون يجعل ذلك هجينًا ولا سيّما في ظلِّ التوجّه الحكومي لتطبيق اتفاق الطائف وإطلاق مشروع قانون الأسرة الوطنية لإلغاء الطائفية السّياسيةّ. أمّا اقتراحُ مارك ضو ووضّاح الصادق فلم يذكر المناصفة صراحةً، وإنّما ألمح إليها ضمنيًّا باعتماد القوائم المغلقة".
بين العرف والواقع
تاريخيًّا، يميل الناخبون اللبنانيون إلى خلطِ الاعتباراتِ المحليةِ بالولاءاتِ الحزبية، لكنّ الدراساتِ العالميةَ تشير إلى أنّ الناخبين في 2024 نزحوا عن الأحزاب التقليدية كلما أحسّوا بأنّها تُكبِّل الإصلاحاتِ الاقتصادية والاجتماعية. وهذا بالضبط ما يدفعُ أحزابَ السلطة، بحسب منتقدي المشروع، إلى تحويل المعركةِ البلدية إلى سدٍّ منيعٍ أمام القوى الجديدة؛ فالفوزُ الشاملُ بلائحةٍ واحدةٍ يمنع تجاربَ مثل "بيروت مدينتي" التي حصلت عام 2016 على ثلث الأصوات لكنها لم تفزّ سوى بمقعدَين بسبب النظام الأكثري المفتوح. ومع استبدال هذا النظام بآخرَ مقفَلٍ، يصبح تمثيلُ المجموعات المدنية مستحيلًا إلّا إذا انخرطت تحت عباءةِ أحدِ الأحزابِ الكبرى..
ترتبط المخاوفُ أيضًا بمسألة المناصفة؛ فقد أُدرجت المناصفةُ في بيروت عُرفًا منذ 1943 ثم كُرِّست في القانون البلدي الحالي، لكنّ الاقتراحاتِ الجديدة تحتفظ بها في الشكل وتُفرِغها من المضمون عبر منح جهةٍ سياسيةٍ واحدةٍ حقَّ تسميةِ كلِّ الأعضاء في اللائحة، فلا تعود المناصفةُ مرآةً لتعدديةٍ اجتماعية، بل واجهةً تجميليةً للحصرية السّياسيّة.
من الزاوية الدستورية، تُثير التعديلاتُ إشكالَين آخَرَين: خَرْقَ مبدأ الفصل بين السلطات بإعطاء وزير الداخلية حقَّ إصدارِ مراسيمَ أساسيةٍ تُحدِّد شروطَ الترشيح والاقتراع، ما يُعَدُّ تفويضًا غيرَ جائزٍ للتشريع التنفيذي، وخَرْقَ مبدأ حريةِ الاختيارِ الفردي بإلزام الناخب التصويتَ للائحةٍ مكتملةٍ أو الامتناع.
في المحصّلة، تكشف معركةُ "اللائحة المقفلة" عن تناقضٍ بنيويٍّ بين خطاب تحديث الإدارة المحلية وسعي الأحزاب إلى تثبيت نفوذها. فالبلدياتُ بتكوينها الإنمائي أقربُ إلى مختبرٍ عَمَليٍّ للحكم الرشيد؛ لكنها تصبح، حين تُقفل اللوائح بنظامٍ أكثريّ وتُحسَم النتائج على قاعدة "الرابح يأخذ كلَّ شيء"، امتدادًا مباشرًا لآلةٍ حزبيةٍ تخشى النقدَ والمساءلة. القرارُ الذي سيتّخذه النواب غدًا لن يُحدِّد مصيرَ دورة 2025 فحسب، بل سيُقرِّر ما إذا كان الطريقُ مفتوحًا أمام تجديدِ الحياةِ السياسية من القاعدةِ صعودًا، أم أنّ البلديات ستُختَزل إلى "زوايا" إضافيةٍ في لوحةِ المحاصصة الطائفية المزمنة.