المصدر: المدن
الكاتب: بشير مصطفى
الجمعة 24 أيار 2024 16:26:13
بلغت النقاشات حول مضامين "قانون الإعلام اللبناني الجديد" مرحلة متطورة أمام اللجنة النيابية الفرعية المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل والمكلّفة متابعته. وتشكل أصول ملاحقة الصحافيين اختباراً أساسياً لنية المشرّع اللبناني حيال الصحافيين.
وفق القواعد القائمة حالياً، تنظر محكمة المطبوعات في المخالفات المرتكبة عبر وسائل الإعلام، وهي عبارة عن غرفة في محكمة الاستئناف الجزائية. ويتابع الجسم الصحافي باهتمام أي نظام سيعتمد في ملاحقة الصحافيين، نظام مدني أو جزائي. ويبقى السؤال حول ما يُشاع عن "إلغاء محكمة المطبوعات"، في حال لم تُنقل الصلاحية إلى القضاء المدني، نظراً لآثار الأحكام الجزائية على "السجل العدلي للمحكوم"، ودور النيابة العامة بوصفها ممثلة للحق العام والمجتمع في تحريك الملاحقة.
المحكمة الإستثنائية
وفق التنظيم القضائي اللبناني، تتوزع المحاكم إلى محاكم عادية، ومحاكم استثنائية. فالمحاكم العادية هي صاحبة الولاية الشاملة، أما المحاكم الاستثنائية التي تنتمي إليها "محكمة المطبوعات"، والمحكمة العسكرية، والمجلس العدلي، والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، والهيئة العامة لمحكمة التمييز، فلا يحق لها النظر إلا في قضايا معينة وعلى وجه الحصر. وحسب المسار المعهود في قضايا الإعلام، تحرك الدعوى العامة لديها بإدعاء من النائب العام، ويمكن تحريكها بإدعاء شخصي يرد من المتضرر.
تتوجه النقاشات الحاضرة إلى تكريس خصوصية الملاحقات في قضايا الإعلام. ويؤكد النائب بلال عبد الله، عضو اللجنة الفرعية، لـ"المدن" أنه "تم وضع المشروع على نار حامية، وهو خليط من مجموعة اقتراحات قوانين، وتتجه اللجنة لوضع صياغات جديدة"، مشيراً إلى أن الاقتراح يأخذ في عين الاعتبار تطور المشهد الإعلامي، والاتجاه نحو الرقمنة، والأهم هو الحفاظ على الحريات، ومنع استخدام أي قانون إعلامي لقمع الحريات، والتمسك بالصياغة التي تحترم المعايير الدولية.
ويلفت عبد الله أن اللجنة تناقش أُطر الملاحقة، وهناك محاولة للابتعاد عمّا يمارس حالياً، وتضييق إطار الحالات التي يسمح فيها بالملاحقة القانونية للصحافي، مضيفاً: "النائب يمكن أن يضمن صياغة القانون، ولكنه لا يمكن أن يضمن ما يُمارس لاحقاً من قبل السلطة التنفيذية، لذلك نسعى إلى تصعيب المهمة على من يود تجاوز القوانين مستقبلاً".
ويتطرق عبد الله إلى مسألة توقيف الصحافيين التي لن تكون موجودة في الأحوال العادية، لكنه إذا كان "عميلاً اسرائيلياً" عندها لا يمكن القيام بشيء. كما يجب التأكيد أن الحرية حدودها الفوضى، ووجوب الالتزام بالحرية المسؤولة، منوّهاً إلى "أننا أمام عمل في اللجنة الفرعية، والنتائج ستحال إلى الإدارة والعدل، ومن ثم مسار طويل إلى اللجان المشتركة، والهيئة العامة لمجلس النواب".
محكمة الاستئناف لا تكفي
يُعتبر تخصيص محكمة استثنائية لملاحقة جرائم الإعلام نوعاً من الضمانات للصحافيين، لكن هذا الأمر وحده لا يكفي، حسب الأستاذ في قانون الإعلام في الجامعة اللبنانية أرز لبكي، الذي ينطلق من الأطروحة القائلة بأن "قانون الإعلام كباقي القوانين في لبنان، أصبحت قديمة وعفا عليها الزمن، وبالتالي لا بد من قانون عصري".
يعتقد لبكي أن هدف إنشاء محاكم استثنائية للصحافيين ليس للضغط عليهم، وإنما لتأمين درجة حماية زائدة ضد كافة أشكال التعسف أو الضغط. ففي المبدأ، جاء تأسيس المحكمة الاستثنائية في مسار إيجابي، لتأمين درجة حماية أفضل للعمل الصحافي، ولذلك لا بد أن تلعب محكمة الاستئناف دور الحاضنة لحرية الصحافة، وليس المنحى القمعي، مُعبراً عن بعض التحفظات التي تنطلق من الجو السياسي العام في لبنان والإقليم.
ويرى لبكي أن الإشكالية اليوم لا تدور حول المحكمة التي تنظر في قضايا الإعلام، وإنما مصدر التحدي والقلق على حرية الصحافي يأتي من قوى الأمر الواقع التي تمارس شتّى أشكال الضغط والترهيب على الصحافيين، متحدثاً عن أشكال مختلفة للتأثير، كالاتصالات التي تأخذ منحى العنف المادي والتهديد، أو تلك الرسائل المبطنة و"المهذبة" بصورة قبلية، على غرار "تمني بعض المراجع على الصحافي عدم إذاعة خبر ما، أو الامتناع عن ملاحقة أو معالجة قضية تهم الرأي العام"، أو "عزيمة غداء"، و"الهدايا" أو حتى "خطاب التخوين".
التنظيم الذاتي
إزاء المخاطر والانقسام العمودي في البلاد، تطل بين الفينة والأخرى مخارج لضبط القطاع الإعلامي على غرار "مواثيق الشرف"، والتنظيم الذاتي للعمل الصحافي في لبنان، والتي تساقطت الواحدة تلو الأخرى.
وفي هذا الإطار أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي العام 2013، برعاية وزير الإعلام آنذاك وليد الداعوق، ميثاق الشرف الإعلامي لتعزيز السلم الأهلي، وجمع المشروع صانعي القرار في وسائل الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع والمواقع الإلكترونية من مختلف الانتماءات السياسية لمناقشة دور الإعلام في تعزيز السلم الأهلي، والتقى المشروع 34 مدير وسيلة إعلامية لإشراكهم في هذه العملية ومناقشة آرائهم حول الميثاق، والإستفادة من تعليقاتهم، والطلب منهم تعيين شخص على مستوى رئيس تحرير لمتابعة موضوع الميثاق مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
بدورها قامت مؤسسة "مهارات" بدراسات عديدة لرصد مدى التزام وسائل الإعلام بمبادئ ميثاق الشرف الإعلامي، ومنها دراسة "دور مقدمات نشرات الأخبار في تعزيز السلم الأهلي" وأظهرت هذه الدراسات أن كل ما يتم الاتفاق عليه من مبادئ اعلامية لا يتم تنفيذه على أرض الواقع، إذ يعود لكل مؤسسة إعلامية الالتزام بأجنداتها السياسية في العمل. وأوصت الدراسة باعتماد لغة في المقدمات تكون ضمن أدبيات الكتابة الإعلامية والابتعاد عن الألفاظ المبتذلة والتحقير وإثارة النعرات والتحريض.
ويشير أستاذ الإعلام جورج صدقة، إلى ضرورة تطوير قانون الإعلام، ليتناسب مع تطور المشهد الإعلامي العام، مقارناً بين أثر الأحكام القضائية، ومواثيق الشرف، مشدداً على "افتقار مواثيق الشرف إلى قوة القانون، وبالتالي لا يمكن فرض تطبيقها من قبل سلطة ما"، فهي "تقوم على التزام أخلاقي لدى الصحافي".
ويؤكد صدقة أنه "لا يقتصر خرق مواثيق الشرف الإعلامية على لبنان، بل هي ظاهرة عالمية"، متحدثاً عن تجارب دولية تعتمد على إنشاء مراصد إعلامية، أو تكليف جهات مدنية وجمعيات لمراقبة عمل الصحف، ومتابعة الأخطاء الأخلاقية. لكن في مطلق الأحوال لا تمتلك هذه المراصد المهنية قوة الإلزام والإجبار لفرض هذه المواثيق، لذلك غالباً ما تتجه الجهة المتضررة إلى القضاء والمحاكم من أجل معاقبة من يخترق الخصوصية أو يخالف القوانين. وينوّه صدقة بتعيين المؤسسات المهنية الدولية "الحريصة" لشخص مشرف على المضمون لتأمين التوازن، والالتزام بالأخلاقيات، ولا يقتصر عمله على النصوص والتقارير، وإنما يتجاوزها إلى الصور.
يأسف صدقة إلى وجود "سقطات إعلامية كبيرة" في لبنان، لأن وسائل الإعلام اللبنانية ملتزمة سياسياً، وطائفياً، وهي تعمل وفق أجندات، تدفعها لإرتكاب أخطاء أخلاقية. ذلك أن "وسائل الإعلام تخضع لإرادة المال السياسي، والأيديولوجيات، لأن مواردها لا تعتمد على الجمهور المستهلك، والإعلانات".
نظام مدني أو جزائي
تناقش اللجنة النيابية المختصة امكانية نقل الولاية من القضاء الجزائي إلى المدني، من أجل توسيع نطاق الحماية للصحافي، وتكريس حرية التعبير والإعلام. في الموازاة، تتجه النقاشات لأخذ التغييرات في الفضاء التكنولوجي والإعلامي في الاعتبار، حيث تتسع دائرة الإعلام الإلكتروني على حساب الإعلام التقليدي القديم. ويلفت المحامي فاروق المغربي، أن القانون سيأخذ في الاعتبار الإعلام الرقمي لأنه أصبح النمط السائد، ومراعاة التطورات المحتملة مستقبلاً في عالم الإعلام الجديد، لذلك فإن البحث يدور ضمن اللجنة لإيجاد تعابير أكثر اتساعاً وشمولية مقارنة بتلك الواردة في قانون المطبوعات القديم.
كما يشدد المغربي على اهمية تكريس المبادئ المرعية لناحية عدم توقيف أو التحقيق مع الصحافي لدى الأجهزة الأمنية، أو خارج محكمة المطبوعات، باستثناء الحالات التي توجب السماع له لدى قاضي التحقيق. وكذلك الإلتزام بالمعايير الدولية لحرية التعبير لناحية عدم تجريم القدح والذم، والحفاظ على حرية التعبير دون رقابة أمنية، واعتبار جرائم التعبير جرائم مدنية، حيث يحق للمتضرر المطالبة بتعويض وعطل وضرر، وتقديم اعتذار علني، وصولاً إلى إحداث توازن بين حرية التعبير والحرية الشخصية للحؤول دون الوقوع في الفوضى الإعلامية.
من جهته، يؤكد المحامي رفيق هاشم أن "منح صلاحية النظر بالقضايا لمحكمة الاستئناف بوصفها درجة أولى، يحرم المتقاضي من مرحلة من مراحل التقاضي، وهي مرحلة البداية"، وإذ يعتقد أن "الهدف هو التسريع في النظر بالمخالفات، لكنه يستبطن الحرمان من درجة من درجات التقاضي، الأمر الذي يمكن اعتباره سلبياً، ويمس بحق الدفاع، وممارسته بصورته المثلى".
ينطلق هاشم من "فذلكة القانون" حيث "استهدف المشرّع من إقرار محكمة استثنائية، تأمين التوازن بين حقوق متباينة أحياناً. فمن جهة، هناك الحق في التعبير الذي يعتبر من الحقوق الأساسية للإنسان، والحق في المعرفة، والوصول للمعلومات، والتثقيف، وهي ملحوظة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. في مقابل الحق في الخصوصية، والحق في صون الكرامة الإنسانية، "لأن اتهام الآخر غاية في السهولة والآثار شديدة للنشر في الإعلام". من هذا المنطلق، على المشترع أن يتعامل مع الإعلام بوصفه رسالة وليس مهنة، ويؤمن التوازن بين الحقوق المتعارضة.
يقلّل المحامي رفيق هاشم من أهمية تسمية المحكمة، هل هي محكمة مطبوعات، أم استئناف، أو ابتدائية أم غير ذلك؟ لأن "المسألة ليست مسألة مبانٍ وألفاظ، وإنما مقاصد ومعانٍ، لأنها يجب أن تؤمن ضمانات فعلية من خلال القانون"، مضيفاً "يجب تسليح القاضي بنصوص القانون، لأن مهمته تطبيق وتفسير القانون، وهو مقيّد بأحكامه، رغم الهامش الكبير للاجتهاد، لأنه عند وضوح النص لا مجال للتأويل".
لذلك، يطالب بمواد قانونية واضحة، تحظر التوقيف الاحتياطي أو الحبس لأي صحافي أو إعلامي، يقوم برسالة سامية، كما يجب توفير الحماية للناشر، وأن يأخذ بعين الاعتبار المواقع الإلكترونية، ومنصات التواصل الاجتماعي التي تؤمن حرية التعبير على نطاق واسع، وبالتالي، "عدم ملاحقة من ينشر في هذه المنصات وفق القواعد الجزائية العادية، أو استدعائه أمام النيابة العامة والضابطة العدلية، أو توقيفه احتياطياً بسبب التعبير بصورة حرة". لذلك، لا بد من نصوص واضحة لا تحتمل التأويل، من شأنها توسيع نطاق الحماية لحرية التعبير والنشر في كافة الوسائل المتاحة، مقترحاً إنشاء إطار حواري يضم كبار رجال القضاء والقانون والإعلام، بين السلطتين القضائية والإعلامية لخلق التوازن بين حرية التعبير والحق في الخصوصية، وتعزيز الإطار المعرفي للطرفين.