مرضى غسيل الكلى مرعوبون!

لطالما شكلت المرافق العامة في لبنان، نماذج حيّة على الفشل الذريع الذي ارتكبته السّلطات الحاكمة على مدار عقود للآن، أكان في صياغة سياسات حقيقيّة لإدارة الموارد الموجودة، من الدوائر الحكوميّة مرورًا بالمراكز التّعليميّة وصولاً لما تبقى من دور الرعايّة الصحيّة والمستشفيات الحكوميّة شبه المجانيّة. ولعلّ مستشفى رفيق الحريري الجامعيّ هو عينة مُصغرة عن ازدراء هذه السّلطات لحقّ المواطنين بالطبابة وحقّ الكادر التوظيفي بالاستقرار المهنيّ والعيش بكرامة. وعوضًا عن ذلك، جعلت السّلطة، هذا الصرح الاستشفائي الذي تعوّل عليه شريحة واسعة من المواطنين (المرضى والموظفين)، مبنى رثّاً، بقدرات تشغيليّة شبه بدائيّة، وكادر توظيفيّ عام مُفقر، ومرضى يستجدون ويتظاهرون لتحصيل فقط حقّهم بالعلاج واستكمال حياتهم.

 

مرضى غسيل الكلى

4200 مريض غسيل كلى في لبنان. 1769 منهم فقط مسجلون في الوزارة، والباقي تكفلهم جهات ضامنة أخرى (حوالى 80 بالمئة منهم من المسنين)، مقسمون كالتالي 3025 غسيل كلى، 250 غسيل كلى في المنزل. وتبلغ تكلفة العلاج بالحد الأدنى 500 دولار شهريًا، ما بين أدوية وجلسات غسيل وفحوص، تتحمل وزارة الصحة تغطيّة نفقاتهم، فيما تتحمل باقي الجهات الضامنة مسؤوليّة الآخرين. منذ نحو الثلاثة أيام، راجت أخبار عن تأخر وزارة الصحّة في تسديد المستحقات المتوجبة عليها للمستشفيات، الأمر الذي دفع بالجمعية اللبنانيّة لأمراض الكلى، للتصعيد مُعبرة عن استيائها من هذا التأخير، الذي طرح فرضيّة توقف المستشفيات عن استقبال المرضى على نفقة الوزارة ابتداءً من الأول من آب المُقبل، ذلك فضلاً عن النقص في المستلزمات الطبيّة وبذلك سيتعين عليهم الاستعانة بالمراكز الحكوميّة أو تحمل تكاليف العلاج بأنفسهم. ومن جملة الوعود بالتّصعيد كان تقرير الجمعيّة إقامة وقفة احتجاجيّة أمام المشفى الحكومي في بيروت، لمطالبة جميع الجهات الضامنة التنفيذ الفوري والكامل لكل ما تمّ الاتفاق عليه سابقًا، وتمّ الإعلان عنه في جميع وسائل الإعلام، وخصوصاً الإفراج عن مستحقات المستشفيات والأطباء لدى وزارة الصحّة العامة، ورفع السّقوف الماليّة لجميع مراكز غسيل الكلى، حتّى تتمكن من متابعة تقديم الرعايّة لجميع المرضى.

وإزاء هذه الضغوط والمطالبات أعلن المدير العام لصندوق الضمان الاجتماعي محمد كركي أنّه "أعطى توجيهاته إلى الدوائر المالية كافةً للاستمرار بتحويل المبالغ المستحقة للمستشفيات عن بدل علاج مرضى غسيل الكلى بشكل شهريّ ودوريّ. وبالفعل تمّ تحويل حوالى 14 مليار ليرة، ليصبح مجموع ما تم تحويله عن مرضى غسيل الكلى خلال العام 2023 حوالى 100 مليار ليرة. وفي سياق متصل، طلب كركي إلى جميع المستشفيات الالتزام بعدم تحميل المرضى أيّة فروقات مالية خصوصاً وأنّ علاج غسيل الكلى مغطّى 100% من قبل الضمان. كما طلب إليهم العمل على تأمين شروط الدفع لديها لناحية دفع اشتراكاتها وتأمين براءات الذمة اللازمة، ومتابعة معالجة معاملاتها في المراكز والوحدات التابعة للصندوق لتتمكن من قبض مستحقاتها، سواء عن غسيل الكلى أو المعاملات الاستشفائية العادية. ما اضطر الجمعيّة لإلغاء اعتصامها الذي كان من المزمع إقامته صباح اليوم.

 

وأكد كركي أنّ "الضمان ملتزم بسداد كلفة علاج غسيل الكلى شهريًا لكافة المستشفيات في لبنان". فيما أكدّت مصادر في الوزارة أن هذا المبلغ لا يكفي لسداد النفقات السّنويّة لعلاج مرضى غسيل الكلى، بل يتعداه بأشواط. فيما أكدّ المصدر أنه من الممكن أن تتكرر مثل هذه السّجالات كعادتها، ومرد ذلك لإهمال المعنيين إيلاء هذا الملف الاهتمام الكافي، فضلاً عن النقص بالمقدرات الماديّة. وعبّر المصدر عن توجسه من أن يتفاقم هذا الوضع، ويضطر بعض المرضى لوقف علاجاتهم، بسبب الضغوط الماليّة الملقية على عاتقهم.

 

مستشفى رفيق الحريري

ليس وحدهم المرضى من يُعانون اليوم من خسارة فرصهم بالاستمراريّة. بل كذلك موظفو المشفى وأجراؤه ومستخدموه ومتعاقدوه، الذين للآن يُكافحون باستمرار لنيل حقوقهم من إدارة المشفى المنهارة. فمنذ حوالى الأسبوع أعلن هؤلاء الإضراب بسبب التأخر في دفع مستحقاتهم وتظاهروا في محيط المشفى وداخله، حتّى تمّ صرف هذه الرواتب، واعتبروا أن الإدارة والمعنيين يقحمونهم في دوامة من الضغط النفسيّ والمعنويّ بسبب تواتر خطر الرواتب، أضف إليه الضغط المعيشيّ والمادي نتيجة الظروف التي يمرون بها. قائلين أنّه: "بالرغم ان للمستشفى مبالغ قيّمة في ذمّة الجهات الضامنة وشركات التأمين وعدم جدّية الإدارة في استحصال حقوق المرفق العام، وما يرافقه من إنفاق غير شفاف ومحاصرة راتب الموظف".

 

وبهذا السّياق تُشير إحدى الممرضات في المشفى أن رواتبهم كل فترة يتمّ تأجيلها، ذلك عدا عن كونها باتت كباقي رواتب القطاع العام فاقدة القدرة الشرائيّة، أما الضمان الصحيّ فتشير الممرضة لكونه بات لا يغطي كافة النفقات الصحيّة بل جزء ضئيل منها، قائلةً: "في المستشفيات الخاصة التكاليف مدولرة، صديقتي وزميلتي في التمريض في مشفى الحريري منذ فترة اضطرت لإجراء عملية جراحيّة لكن ضمانها الصحيّ من عملها أثناء العشرين سنة السّابقة كموظفة قطاع عام، تبين أنه لا يساوي شيئًا، ولم تستطع بسبب ضيق حالها الماليّة من إجراء الجراحة المستعجلة في مشفى خاص، لذلك أجرتها في مستشفى الحريري الذي دفعت فيه ثمن الفحوص والأدويّة والمستلزمات الطبيّة كمجموع 2000 دولار أميركي، والذي يساوي راتبها لسنة كاملة".

 

المرضى من اللبنانيين واللاجئين

ووضع الكادر التّوظيفي يُشابه بنكبته وضع المشفى المأزوم والقاصر عن تقديم العناية اللازمة للمرضى، من حيث تدني جودة الخدمات الطبية والرعاية المقدمة للمرضى، حيث اضطر المستشفى إلى تقديم خدمات محدودة وتقليص بعض الخدمات الطبية الأساسية. وتأثر أيضًا مدى توفر الأدوية والمستلزمات الطبية، مما أثر على عمليات العلاج والإجراءات الجراحية. وأدى في بعض الأحيان إلى تأجيل العمليات الحرجة والحالات المستعجلة. بالإضافة إلى ذلك، شهد مستشفى الحريري نقصًا في الكادر الطبي والتمريضي بسبب صعوبة الأوضاع الاقتصادية وانخفاض الرواتب والحوافز المقدمة للموظفين. هذا الوضع المتردِّي أثر على رغبة بعض المهنيين الصحيين في الاستمرار في العمل في المستشفى، مما تسبب في نقص الخبرات والكفاءات الطبية في بعض التخصصات الحيويّة.

 

فضلاً عن كون المستقبل المزدحم بالمرضى من كل الجنسيات بقدرة استيعابيّة مخنوقة، فإن زوراه من المرضى اللبنانيين يواجهون أزمة فقدان الأدويّة فيه، ويضطرون لشرائها من الخارج، هذا فضلاً عن فوارق الضمان الاجتماعي أو الوزارة التّي يضطرون لدفعها بالدولار الأميركي. فيما المرضى من اللاجئين السّوريين يواجهون مشاكل في الاستشفاء، خصوصاً أولئك غير المسجلين في المفوضية، ولا تتحمل باقي الجمعيات نفقات استشفائهم وطبابتهم. وهذا كلّه يندرج في سياق الأزمة الصحيّة وغلاء الفاتورة الاستشفائيّة التّي يقاسيها لبنان.