المصدر: المدن
الكاتب: إبراهيم الرز
الثلاثاء 1 تموز 2025 11:42:38
لكن خلف الشعارات، تقف حقائق موثقة، وخلف التصريحات، تحضر فجوة قانونية غابت عنها المستندات. فمن يملك هذه الأرض؟ وهل هي لبنانية فعلاً؟ وإن كانت كذلك، لماذا لا يثبت لبنان حقه في الأمم المتحدة بمستندات لا لبس فيها، من دون أن ينتظر خطوة إيجابية من الدولة السورية تلغي هذا الالتباس بالقرائن والبراهين؟
ملكية الأرض في الوثائق
تستند الرواية اللبنانية إلى مجموعة وثائق تُثبت، وفق السلطات اللبنانية، أن الأراضي مملوكة من قبل عائلات لبنانية، ومسجلة في سجلات العقارية في مرجعيون وحاصبيا، بعضها يعود إلى "الطابو" العثماني وفترة الانتداب الفرنسي. كما أن المزارعين كانوا يدفعون ضرائبهم إلى الإدارة اللبنانية، وتوجد دعاوى قضائية في المحاكم اللبنانية بشأن أراضي تلك المزارع تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي. في المقابل، مارست الدولة السورية قبل عام 1967 نوعًا من الإشراف الإداري على المنطقة، ما فسّره البعض على أنه كان لغايات خدماتية وتنظيمية، لا سيادية.
تُظهر بعض خرائط فترة الانتداب الفرنسي المزارع ضمن الحدود اللبنانية، خصوصًا خريطة "بوليه – نيوكمب" لعام 1923، لكن تفسيرات الأمم المتحدة والخرائط المعتمدة لديها بقيت ملتبسة. في المقابل، لم تُرسم الحدود اللبنانية – السورية بشكل نهائي في هذه المنطقة حتى اليوم، وهو ما يجعل أي تفسير عرضة للتأويل.
ومعلوم أنه بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني عام 2000، رفضت الأمم المتحدة اعتبار المزارع جزءًا من الأراضي اللبنانية التي يفترض أن يشملها القرار 425. وبقيت في سجلات المنظمة الدولية أراضٍ سورية احتلها إسرائيل في حزيران عام 1967، وستبقى كذلك ما لم تقدّم سوريا موقفًا رسميًا يثبت العكس.
صمت سوري وتصريحات من دون وثائق
وكان الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، قد أكَّد مرارًا، في مقابلاته وتصريحاته أن مزارع شبعا "لبنانية"، وأن لا خلاف مع لبنان على هذه النقطة. لكن هذه التصريحات لم تُترجم يومًا إلى موقف رسمي أمام الأمم المتحدة.
ورغم مطالبات متكررة من الدبلوماسية اللبنانية بتقديم رسالة سورية رسمية تُثبّت لبنانية المزارع، لم تُقدّم دمشق هذا المستند. وهو ما فتح الباب أمام تأويلات عديدة.
موقف جنبلاط الأخير
وجاء تصريح النائب السابق وليد جنبلاط الذي اعتبر أن مزارع شبعا سورية ليجدد الجدل بشأن هويتها، لا سيما لجهة تذرع "حزب الله" بضرورة تحريرها ليحتفظ بسلاحه. تعليقًا على ذلك، قال النائب الدكتور بلال عبد الله لـ"المدن" إن "كلام وليد جنبلاط ليس جديداً، لكن توقيته يأتي في لحظة سياسية كبرى في المنطقة، حيث يجب حماية البلد عبر ترسيم كل حدود لبنان، من الجنوب إلى الشمال". ويضيف عبد الله: "وفقاً للقانون الدولي، مزارع شبعا تقع ضمن نطاق عمل قوة مراقبة فض الاشتباك (الأندوف)، التي أنشئت بموجب اتفاق بين سوريا وإسرائيل بعد حرب تشرين عام 1973، ما يعني أن الأمم المتحدة تعتبرها أراضي سورية".
ويتابع: "الدولة السورية السابقة لم تقدّم أي مستند يثبت لبنانية المزارع، وهذا ما يستوجب نقاشًا رسميًا وجديًا بين الدولة اللبنانية والدولة السورية الجديدة، لتحديد هذه المسألة على أسس موثقة" ويختم بالقول: "هناك مصلحة لبنانية كبرى في ترسيم الحدود مع سوريا، من شبعا إلى العريضة".
حزب الله والمقاومة المستمرة بذريعة شبعا
وقد يحتاج "حزب الله" إلى هذه القضية غير المحسومة، والتي تغيب عنها الوثائق الدولية ويُبقى عليها الصمت السوري ورقة ضغط مفتوحة. ما يسمح له باستخدامها ذريعة في خطابه الداخلي والخارجي. وتوفِّر هذه المقاربة مشروعية لسلاح خارج الدولة كمقاومة مسلّحة، على الرغم من أن لبنان كان قد استعاد الجزء الأكبر من أراضيه بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000..
المأزق القانوني والسياسي
ويقول النائب السابق عن شبعا الدكتور منيف الخطيب لـ"المدن"، "منذ قيام الدولة اللبنانية عام 1920، كانت الدولة تمارس جميع صلاحياتها على المزارع، من الناحية المالية، والإدارية، والأمنية، وحتى في ما يتعلق برخص البناء. وكانت جميع الوثائق والمعاملات الرسمية تُستخرج من المؤسسات اللبنانية، ويُعامل سكان المزارع كمواطنين لبنانيين
في عام 1946، ومع بدء التخطيط لترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، اعتُبرت مزرعة "المغر" مزرعة سورية، رغم أن أصحابها وأهاليها لبنانيون. غير أن اصحابها سجلوها في الدوائر الرسمية السورية. اما باقي المزارع فبقيت لبنانية.
عندما حصل الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، احتُلّت "مزرعة المغر"، ولم تُحتل سائر المزارع اللبنانية مباشرة. ثم امتد الاحتلال تدريجيًا من عام 1968 حتى عام 1984، والسبب الرئيسي لاحتلال هذه المزارع اتى بعد اتفاق القاهرة، ما اعطى حجة للإسرائيليين بالسيطرة عليها، وهذه نقطة أساسية لا بد من التوقف عندها".
وعند سؤال الدكتور الخطيب عما إذا ما كانت الإشكالية حول مزارع شبعا تعود الى غياب الترسيم الواضح بين سوريا ولبنان؟ يؤكد أن هذا ليس سوى حجة، فمزارع شبعا لبنانية. لكن الإشكالية سياسية، لأن الخريطة التي تلتزمها الأمم المتحدة، للأسف، هي الخريطة الإسرائيلية وما ساعدها في ذلك هي المقاومات المتعاقبة من ايام احمد الشقيري الى اليوم، فهي وبطريقة غير مباشرة تساعد الإسرائيلي على تنفيذ هذه الخريطة وتعتبرها انتصارات".
هذا البعد السياسي والإداري يؤكده محمد سرحان وهو ابن شبعا وعائلته لا تزال تملك اراض في المزارع فيقول "المدن"، "شكلت مزارع شبعا امتدادًا طبيعيًا لحياة أهالي البلدة، إذ عمل فيها العديد من السكان، وأقام فيها بعضهم بشكل دائم ومنهم جدي، كما أنها شكّلت مصدر رزق أساسي للعائلات، لما تحتويه من أراضٍ زراعية خصبة تُنتج الكرز والكستناء والزيتون وغيره".
يضيف سرحان: "يعتبر أهالي شبعا هذه الأراضي لبنانية، ويؤكدون أن المشكلة بدأت فعليًا مع اتفاق القاهرة، حين أصبحت المنطقة ممرًا للفدائيين نحو فلسطين، في ظل غياب الدولة اللبنانية عن أداء دورها الأمني والإداري. وقد طالب الأهالي مرارًا بفتح مخفر ومركز رسمي، لكن الدولة لم تستجب، فيما عرضت سوريا في حينه إقامة مركز أمني، وهو ما زاد من الالتباس الإداري.
فكانت بعض النزاعات تحوّل أحيانًا إلى محكمة القنيطرة في الجولان، قبل أن تُحال مجددًا إلى محكمة حاصبيا، ما يدلّ على الطابع اللبناني للمكان رغم التداخل السوري.
وبعد اجتياح 1982، احتلّت إسرائيل المزارع، واعتبرتها سورية بحكم موقعها الجغرافي القريب من الجولان. ومنذ التحرير عام 2000، بقي ملف المزارع معلقًا وسط غياب واضح للدولة اللبنانية، رغم تمسّك الأهالي الدائم بانتمائهم الوطني واحترامهم لسلطة القانون".
في الخاتمة، إن غياب وثيقة سورية رسمية أمام الأمم المتحدة، تُثبت لبنانية المزارع، جعل الملف عالقًا بين الشرعية الوطنية اللبنانية والموقف الدولي. وحتى اليوم، تُطالب الأمم المتحدة بموقف موثّق ومشترك من بيروت ودمشق، وهو ما لم يتحقق.
في المقابل، يُبرز هذا التباين كيف تُوظَّف الحدود التاريخية والخرائط في خدمة رهانات سياسية، لا تُنهي الاحتلال ولا تُنهي الجدل حول السلاح غير الشرعي، بل تترك الأمور مفتوحة على تأويل دائم.