المصدر: القبس
الجمعة 15 تموز 2022 01:43:11
كان الهدوء يخيم داخل مركز «بيتنا» لرعاية المسنّين، حين صدح صوت آتٍ من الرواق. على كرسي نقّال، رجل ثمانيني، بعينين زرقاوين، ووجه بشوش، يروي لإحدى الممرضات فصلاً من حكاياته.
تقترب منه مديرة المأوى، وتسأله بلطف أن يخفض صوته، لكي لا يزعج زملاءه المستلقين في غرفهم فيعلو صوته أكثر، متابعاً بحماس روايته التي لم نلتقط سوى خاتمتها «اقترب مني يريد ضربي فرحت أصرخ: يا جنرال يا جنرال».
وقبل أن نسأله عن أي جنرال يتحدث، رفع إصبعه ونظر إلينا، قائلاً: «لن تنصلح أحوال البلاد ما لم يتولّها رئيس مستبد عادل».
مشاعر متضاربة
في دور الرعاية، تتنازع الزائر مشاعر متضاربة، مسنّون يستعيدون أشرطة حياتهم أو ما علق منها في الذاكرة، حكايا يختلط فيها الخيال بالواقع، بعضها يستدعي الضحك وبعضها مؤلم حد الوجع، لا سيما حين يخبرك كهل، بإدراك تام، أن وجوده في هذا المركز هو المحطة الأخيرة له على هذه الأرض.
يدفع المسنّون في لبنان قسطهم عن الانهيار الحاصل، في ظل غياب قانون يرعى حقوقهم ويضمن لهم حياة كريمة. وحسب تقرير للمؤسسة الدولية لكبار السن ومنظمة العمل الدولية، يواجه الأشخاص الأكبر سناً في لبنان واقعاً صعباً ومستقبلاً قاتماً، بسبب افتقار لبنان إلى ضمانات الحماية الاجتماعية الأساسية.
يمثّل كبار السن في لبنان 11 % من السكان. ورغم أن هذه النسبة هي الأعلى بين الدول العربية، فلا يزال لبنان من أضعف البلدان في المنطقة من ناحية تأمين الحماية الاجتماعية لكبار السن.
يعتمد قرابة 80 % من كبار السن في لبنان على أسرهم للحصول على الدعم المالي، أو على مدّخراتهم التي فقدت قيمتها، إن وجدت.
ولا يتلقى معظم المسنّين أي معاش تقاعدي أو دعم مالي من الدولة. ويشهد لبنان تحولاً سريعاً نحو الشيخوخة من جراء الانهيار الاقتصادي، الذي فاقم من هجرة الشباب، وحدّ من الإقبال على الزواج.
إجراءات تقشّفية
ولم تسلم دور العجزة في لبنان من تداعيات الأزمة الّتي طاولتها بشكل كبير. واضطرت معظم دور الرعاية إلى اعتماد إجراءات تقشّفية صعبة، للصمود في ظل هذا الواقع.
إحدى المسؤولات عن دار للمسنّين في طرابلس قالت بأسى: «نكافح للمحافظة على حد أدنى من الرعاية اللائقة لأهلنا المسنّين، فبسبب ارتفاع أسعار السلع بشكل هائل تغيّر نظام النظافة وبدل تحفيض المسن 5 مرات يومياً، بتنا نحفّضهم 3 مرات. ووصل التقنين إلى لائحة الطعام التي اختفت منها اللحوم، واستعيض عنها بالأسماك أو الدجاج مرة شهرياً». وتقول أنطوانيت مجاعص المسؤولة عن مركز «بيتنا» إن «كثيراً من الأبناء حين يأتون للاطلاع على أحوال المركز قبل إرسال ذويهم يسألون إذا كانت اللحوم متوافرة في المركز، لأن دور رعاية كثيرة ألغتها من القائمة، وأصبحت تعتمد على مرق اللحم فقط».
الأزمة المالية
ترفض مجاعص أن نسمّي مركزها مأوى أو دار رعاية، وتقول: «بيتنا مركز طبي مجهّز بجميع الوسائل، ولا ينقصه سوى غرفة عمليات. وهدفنا من إطلاق هذه التسمية أن يشعر المسنّ بأنه في بيته. فإذا سأله أحدهم أين أنت، فسيجيب فوراً في بيتنا».
وهذا المركز- كما سائر دور الرعاية التي تواصلت معها القبس - يعاني من وطأة الأزمة المالية والاقتصادية، التي أثّرت بشكل كبير على توافر الخدمات والاحتياجات، بما في ذلك الأدوية التي يحتاجها كل مسن، بالإضافة إلى المحروقات، لتصل الأزمة الأخيرة إلى فقدان رغيف الخبز.
وما بعد الانهيار المتمادي، ارتفعت التكلفة اليومية لحاجات المسن بشكل كبير. تقدّر السيدة مجاعص تكلفة المحروقات لكل مريض بنحو 4 ملايين ليرة شهرياً، بين تدفئة وإنارة وتشغيل الغسالات وماكينات الأوكسجين.
وحين سألناها عن مساهمة الدولة في هذا المجال، ضحكت بمرارة، قائلة: «وزارة الشؤون الاجتماعية تدفع 15 ألف ليرة فقط بدلاً يومياً للمسن، علماً بأن الدفع متوقف منذ عامين. أما وزارة الصحة، فلا يتعدى ما تدفعه 50 ألف ليرة، تتقاضاها دور الرعاية كل سنتين».
وتوضح لنا أن عقد الرعاية يكون مع جهة واحدة. أما وزارتا الصحة والشؤون الاجتماعية، فلا يستفيد المسن منهما.
وفي ظل شح المداخيل، وتأخر الدولة عن سداد مستحقاتها، تعتمد بعض دور الرعاية على الأقساط الشهرية التي يدفعها أبناء المسنين أو على التبرعات والتقديمات، التي شحت هي الأخرى بفعل الأزمة وتردي الأوضاع المعيشية لمعظم اللبنانيين.
المعاملة ممتازة
حين نتجول بين غرف «بيتنا»، نكتشف أن السيدة مجاعص محقة برفض تسمية المركز بمأوى المسنين، فبعض الموجودين لم يتجاوزوا العقد السادس من أعمارهم، وهم بكامل وعيهم وإدراكهم.
على مقعد بجانب سريرها، جلست برناديت الصايغ، وحيدة، تتأمل المنظر الخارجي من نافذة غرفتها.
نسألها السماح لنا بالتحدث إليها فتهز رأسها إيجاباً وتدعونا للدخول. على طاولة صغيرة قربها كتب مكدسة باللغتين الفرنسية والعربية. السيدة في الخمسينات من عمرها، غير متزوجة، ولا تعاني أي أمراض.
تقول برناديت: «لدي ثلاثة أشقاء كلهم في الخارج. ولدي شقيقة راهبة. أقمت فترة طويلة وحدي في المنزل، ومع تردي أحوال البلاد وتزايد السرقات والجرائم، بت أشعر بالخوف من أن يصيبني مكروه ولا يعلم بي أحد. وتمنيت من إخوتي أن يأخذوني إلى دار رعاية».
هل أنت راضية عن وجودك هنا، نسألها، فتجيب: «طبعاً. المعاملة ممتازة، والجميع ودودون. ولا أشعر بالملل. أمضي يومي بالقراءة وتدوين بعض الخواطر. وأنتظر رجوع إخوتي من الاغتراب لكي أعود إلى بيتي».
تدنّي الأعمار
ليست حال برناديت استثناء، فتدني أعمار طالبي اللجوء إلى دور الرعاية أمر أجمع عليه مسؤولون في أكثر من مركز. مسؤول في «دار الرحمة» كشف لنا أنه تلقى اتصالات من أشخاص لم يتجاوزوا الأربعينات، يسألون عن إمكانية إيوائهم.
ويعلل هذا الأمر بأن من خسر عمله وفقد مصدر عيشه لم يعد بإمكانه دفع إيجار منزل، وبالتالي لم يبق لديه خيار سوى اللجوء إلى دور الرعاية.
أين الخطأ؟
في الكافتيريا التابعة لمركز «بيتنا» سيدتان تشربان القهوة، بانتظار حلول موعد الزيارات. تطلب إحداهما من المشرفة على المركز أن تقبض منها المبلغ المتوجب عليها قبل أن تصل والدتها.
السيدة أربعينية، وتعمل في مجال الألبسة، حسب ما روت لنا. وهي أم لأربعة أولاد. تأتي أسبوعياً لزيارة والدتها المسنة. تقول لنا: «الوالدة الثمانينية وقعت أربع مرات في سنة واحدة. وصار وجودها في المنزل وحدها خطراً عليها. نعمل أنا وزوجي، ولا نملك الوقت الكافي للاهتمام بها. أين الخطأ في توفير مكان يؤمن لأهلنا ما يحتاجونه من رعاية طبية وعناية لم نعد قادرين على حملها؟»
وحين سألتها عن سبب طلبها تسديد البدل الشهري قبل لقاء والدتها، قالت: «كي لا أشعرها أنها تُثقل عليّ وترهقني مادياً. أقنعتها أن هذا المركز يؤمن لها الرعاية اللازمة مجاناً. فوافقت على المجيء».
معلومات عن دور الرعاية
1 - معظم مراكز الرعاية مكتملة العدد وليس فيها غرف شاغرة.
2 - الظروف المعيشية وفقدان الدواء زادا من الطلب على المآوي.
3 - رحيل العاملات الأجنبيات سبب إضافي لتزايد الطلب على الدور.
4 - الوضع أسوأ لكبار السن غير المشمولين في أي صندوق ضمان.