المصدر: الأخبار
الاثنين 27 كانون الثاني 2020 07:57:51
بثقة عالية، تعد الحكومة بأن لا يكون بيانها الوزاري حبراً على ورق. لكن من يقرأ مسودته لن يكون صعباً عليه إدراك أن معظم ما تضمّنته سيبقى حبراً على ورق. الوعود كبيرة جداً، ولو تحقق نصفها لأمكن انتقال لبنان من دولة فاشلة إلى دولة تتلمس طريق التنمية. ثقتها تلك تجعلها لا تتردد في انتقاد من سبقها. تقول إن «قسماً كبيراً من الوعود يتكرر هو هو، من بيان إلى بيان، ومن حكومة إلى حكومة، وكأننا أمام شعارات جذابة، رنّانة تدغدغ مشاعر الناس وتُقنع النواب بمنح الثقة، لكن الوقائع أظهرت أن المشاريع الموعود بها والشعارات والمطلقة مع بداية كل عمل حكومي ظلت لسنوات طويلة بلا تنفيذ».
بصرف النظر عن الرأي الشعبي بالحكومة، التي يصفها المنتفضون بحكومة «التكنومحاصصة»، إلا أن ذلك لا يصل إلى مسامع الذين أعدّوا مسودة البيان الوزاري. هؤلاء يتعاملون مع الحكومة كما لو أنها نتاج الانتفاضة، ويصفونها بـ«حكومة الناس». وانطلاقاً من هذا التوصيف، تشير المسوّدة إلى أن «الثقة الحقيقية» تستند، إضافة إلى المجلس النيابي، إلى «أهلنا وناسنا في الشارع، الذين عبّروا بوضوح وجرأة منذ 17 تشرين الأول 2019 عن مطالبهم وتمنيّاتهم وأحلامهم». وأكثر من ذلك، فإن «هذه الأصوات وقعت أصداؤها في أعماقنا ووجداننا»، يقول البيان.
بعد التملّق والوعود، قسمت التعهدات والالتزامات الواردة في البيان إلى قسمين: فئة أولى تضم مشاريع وبرامج «نتعهد بتنفيذها ضمن مهلة زمنية محددة»، وفئة ثانية تضم مشاريع «غير مبرمجة زمنياً لأسباب وظروف تتعلق بعدم القدرة مسبقاً على تقدير فترة تنفيذها».
قد تكون المرة الأولى التي تتم الإشارة فيها إلى وضع خطة لتحويل الاقتصاد من ريعي إلى منتج. هذا خيار الحكومة، وإن تدرك أنه لن يتم بين ليلة وضحاها، بل يتطلب مراحل عديدة تؤدي في النهاية إلى التحول الجذري في هيكلية الاقتصاد.. أما خارطة الطريق، فستكون «مستوحاة من تقارير البنك الدولي وبرامجه، وتقرير ماكينزي، وأوراق أصحاب الاختصاص، مع الانتباه إلى تراكم الإخفاقات السابقة في التحوّل». تدرك الحكومة أن مهمتها الأولى هي رسم خطة إنقاذ عاجلة وتنفيذها سريعاً. تضع لنفسها مهلة 5 أشهر لتنفيذها ومعالجة المسائل التالية:
استعادة ثقة المنتفضين الثائرين بجوارحهم، وثقة المودعين والمستثمرين، وثقة المجتمع بمختلف قطاعاته الاقتصادية، إضافة إلى ثقة المجتمع الخارجي.
تمويل الدولة، في ظل الأزمة الراهنة التي تحول دون اتباع الأسلوب السابق في الاقتراض عبر إصدار سندات دين حكومية.
إعادة رسملة القطاع المصرفي كي يتمكن من مواكبة خطة الانقاذ.
إحياء القطاع الخاص بعدما نالت منه نكبة تصاعدية أدت إلى تراجع حركة الأعمال وارتفاع نسبة البطالة والفقر.
إنشاء شبكة أمان اجتماعية لهدف تأمين متطلبات ضرورية إنقاذية لذوي الدخل المحدود، تتمثل في المعونات المادية والعينية والتعليم والصحة.
لتحقيق هذه الأهداف، تفتح الحكومة الباب أمام كل الاحتمالات. اللجوء إلى صندوق النقد الدولي واحد من الخيارات، أو بشكل أدق آخرها. البيان الوزاري يؤكد أنه بعد إقرار الخطة يجب درس إذا ما كان لبنان قادراً على تنفيذها بموارده الذاتية أو بطلب مساعدة من الخارج. تشير مسودة البيان إلى أنه، بعد دراسة الجانبين العلمي والواقعي، إما أن تكون الدولة قادرة على تنفيذ خطة إنقاذ وحدها، على أن يعمل من يودّ المساعدة من الدول على تقديم المساعدة من خلال هذه الخطة، وإما أن تتوجه إلى الخارج للتفاوض والتعاون بهدف بلورة خطة تنقذ لبنان وتحفظ سيادة وكرامة مواطنيه («في حال لمسنا أن الدولة انتهت إلى مرحلة يستحيل معها الخروج من النفق بلا إطار دعم خارجي»).
تلك الخطة «الإنقاذية الطارئة هي أولوية الأوليات» بحسب الحكومة، لأنه من دونها لا إمكانية للانتقال إلى تنفيذ الخطط والمشاريع الحيوية، ولذلك حدّدت الحكومة لنفسها مهلة خمسة أشهر، كحد أقسى، لإنجازها.
يضع معدّو البيان أصابعهم على «واحدة من مشكلات لبنان الأساسية»، أي «انعدام الرؤية الاقتصادية وتضارب هذه الرؤية أحياناً». لذلك، إضافة إلى الخطة الإنقاذية، تسعى الحكومة إلى وضع خطة اقتصادية عامة تمثل مرجعية لتنفيذ المشاريع المستقبلية. واحدة من العقبات أن هذه الخطة ستستعين بدراسة شركة «ماكينزي»، لا سيما في الشق المتعلق بالقطاعات الاقتصادية. فتلك الخطة تعرضت لكثير من النقد من أصحاب الاختصاص. وبالرغم من الإشارة إلى أن الحكومة ستراجع الخطة وتحدثّها بما يتوافق مع مستجدات الفترة الماضية، قبل اعتمادها كخطّة خمسية تواكب الانقاذ المالي وتليه، إلا أنها تنسخ رؤيتها لمعالجة القطاعات الاقتصادية الأساسية. تلك الرؤية، سبق أن تعرضت لانتقادات لا تعد ولا تحصى، أبرزها من مؤسّسة «البحوث والاستشارات» التي أعدّت مراجعة لمنظّمة «فريدريتش إيبرت» الألمانية، بهدف تقييم «الخطّة الاقتصادية الوطنية». فتبين أن تشخيص «ماكينزي»، الذي يتطرّق إلى الأعراض ولا يبحث في الأسباب، دفعها نحو «اقتراح حلول غير واقعية وفي أطر زمنية غير واقعية، لن تؤتي ثمارها ما لم تُعالَج الاختلالات الوظيفية».
«حكومة الناس» تدعوهم إلى تقديم التضحيات
الأخطر أن الدراسة «تقترح التعاطي بمسؤولية أكبر مع تحدّيات المالية العامّة، وفي الوقت نفسه تطرح برنامجاً طموحاً لتطوير البنية التحتية وتحصر تمويله بالقروض بدلاً من استهداف النظام الضريبي وتصحيحه، وهو ما قد يفضي إلى تكريس الحلقة المالية المُفرغة التي يدور لبنان فيها منذ نحو 30 عاماً»، على ما يشير التقييم الذي أعدته «مؤسسة البحوث والاستشارات». وعلى هذا المنوال، استخلصت «ماكينزي» طريقة تعزيز القطاعات الاقتصادية من تحليلات تعتمد نهج المقارنة مع بلدان وصفتها بالمرجعية، بمعزل عن معايير الناتج المحلّي للفرد، وخصائص مكوّنات الناتج المحلّي، والسمات الخاصّة بالمقدرات الجغرافية والبشرية والاقتصادية في لبنان. ولذلك، فإن مجرد تحديث الخطة، على ما تنص مسودة البيان الوزاري، سيبقى عاجزاً عن مواجهة المشاكل الفعلية التي تواجه الاقتصاد. تكفي الإشارة إلى أن «ماكينزي» قدّمت عدداً تقديرياً للوظائف المُفترض إنشاؤها، بما يشكّل ضعفي ما أُنشئ بين عامي 2004 و2009، وهي الفترة التي سجّلت أعلى معدّلات النمو الاقتصادي في لبنان.
مرة جديدة، يرد اسم وزارة التخطيط. الحكومة الحالية قررت إحياءها أيضاً. الهدف منع فوضى تنفيذ المشاريع ووضع رؤية مستقبلية وتحديد الآليات المؤاتية لإلغاء بعض الصناديق والمجالس والمؤسسات العامة.
تطول لائحة الوعود، من استقلالية القضاء، إلى تسريع مسار التنقيب عن النفط، إلى حق المواطنين اللبنانيين في مقاومة الاحتلال، إلى محاربة الفساد والهدر… لكن يبدو أن كل هذه الوعود لن تكون ممكنة التنفيذ من دون فرض المزيد من الأعباء على الناس. ولذلك يتوجه البيان الوزاري إلى اللبنانيين، داعياً إلى أن «يدركوا أن طريق التعافي لن يكون مفروشاً بالورد، وسنضطر جميعاً إلى تقديم تضحيات لا بد منها للخلاص».