«الشياح لن تنزاح»، هو الشعار الشهير الذي أطلقه الإمام المغيّب السيد موسى الصدر، في مثل هذا الشهر من عام 1975، من حسينية الشياح تحديداً، يوم زارها متضامناً ومؤازراً بعد القصف العنيف الذي تعرَّضت له في الحرب الأهلية آنذاك. وهو شعار صار بمثابة بصمة يحملها أهالي الضاحية عموماً، والشياح خصوصاً.
يوم أطلق الإمام الصدر الشعار، كان يريد من خلاله تثبيت الضاحية، من قلب الشياح، في قلب معادلة المقاومة والصمود، لا تحويل المنطقة إلى «مقمرة» كما يفعل اليوم من يدّعون زوراً الانتساب إلى الصدر. يشعر أهالي الشياح بحاجة ماسّة إلى نَفَس الإمام المغيّب الحامي والراعي، وعيونهم شاخصة إلى الرئيس نبيه بري، بوصفه رمزاً وامتداداً لتلك الحقبة بما فيها من آمال ووعود برفع الحرمان، إذ يجزم كثر منهم بأن الرئيس بري «مغيّب» عن أحوال منطقتهم، وبأن مَن أولاهم مسؤولية متابعة شؤونهم لا ينقلون له حذافير ما يجري بأمانة.
يوم زار الإمام الصدر الشياح، كانت حركة أمل في طور التأسيس. يومها، عاين أضرار القصف الذي طاول الممتلكات من منازل ومحالّ تجارية وسيارات. اليوم، لا تزال آثار «معركة السبت» ماثلة على سيارات الناس وبيوتهم، فيما في الصالونات مَن يعمل على مصالحة «المتخاصمين» الذين يحظون بغطاء من أمل، من دون الالتفات إلى الناس ومصالحهم وأرزاقهم، وهذا أكثر ما يحزّ في نفوس أهالي الشياح وساكنيها.
والشياح هنا نموذج صغير عن حال الضاحية، بناسها الذين يقفون مع المقاومة كمشروع، بصرف النظر عن التنظيم واسمه، ولا يتركون فرصة - انتخابات، إلا ويعبّرون عن استعدادهم للعطاء دون مقابل في سبيلها. هذا بالضبط ما يجب أن يكون دافعاً لأحزاب المنطقة وقواها، وعلى رأسها حركة أمل والرئيس بري، بوصفهما حصة المنطقة في الدولة، للالتفات إلى أحوال الشياح والضاحية.
على أن الالتفات إلى الشياح، وعبرها إلى الضاحية، مفتاحه هنا الاستدارة إلى حركة أمل ودواخلها، ومراكز القوى المتعددة التي تنبت تباعاً على هامشها. فمعركة السبت على «إمرة» الأحياء بين زعران من آل الخليل وآخرين من آل دمشق، وكلا الفريقين محسوبان على حركة أمل، شكّلت بمعنى ما، رأس جبل الجليد الذي يتكوّن نتيجة صراع الأجنحة والنفوذ داخل الحركة، ويُترجم على شكل معارك واشتباكات في مناطق نفوذها، بين محظيين ومستفيدين من الحركة واسمها وتاريخها وحاضرها، وحتى مستقبلها. وهذا ما يستدعي تدخلاً عاجلاً من الرئيس بري ومن قيادة حركة أمل لوضع حدّ لهذه الحالة الشاذة، وإنهاء حكم الزعران وحماتهم.
صراع «داخلي» على النفوذ والمصالح
فتحَ الإشكال المسلّح الذي شهده حي المصبغة في منطقة الشياح، السبت الماضي، باب التساؤلات حول فقدان الأمن الاجتماعي الذي تشهده غالبية أحياء الضاحية الجنوبية وأزقّتها، في ظلّ تنامي ظاهرة «أمراء الأحياء»، وغياب أي مسعى حقيقي لاجتثاثها، إنْ من قبل أحزاب المنطقة أو من القوى الأمنية التي يحمّلها الأهالي الجزء الأكبر من المسؤولية، ويرمونها بانتقادات كثيرة تصل إلى حدّ اتهامها برعاية كثير من «الحالات الشاذة» لأسباب عديدة، منها ما هو متعلّق بالاستفادة الأمنية والاستخباراتية، أو بـ«محاباة» المرجعيات السياسية التي تتبع لها.
وأتت التغطية التلفزيونية «المُستغرَبة» لأحداث السبت، لتزيد من التساؤلات حول الجهة المستفيدة من محاولة تمييع الحقائق لحماية أحد الأطراف المتورّطة في الإشكال، فيما الحقيقة التي يرويها أهالي المنطقة، بصفتهم «الضحية الوحيدة» للأعمال الميليشيوية لطرفَي الصراع، تقول إن الإشكال وقع بين أشخاص من آل الخليل وآخرين من آل دمشق وليس بين العائلتين، وإن المتورّطين جميعهم محسوبون على جهة سياسية واحدة هي حركة أمل.
تفاصيل كثيرة تتناقلها ألسنُ الأهالي والجيران، حتى منذ ما قبل وقوع «معركة السبت»، إلا أن العميد يوسف دمشق (أبو علي)، مسؤول أمن الرئيس نبيه بري، هو العنصر المشترك في كل الروايات، المنقولة عن الأهالي أو عن «مسائيل» في المنطقة ينتمي كثيرون منهم إلى الجهة المحسوب عليها «أبطال المعركة» من الطرفين. رواية الفريق الأول المكوّن من علي نمر الخليل وعمَّيه مصطفى وخضر صارت مشهورة في الشياح، ومفادها أنهم زاروا دمشق قبل نحو عشرة أيام وسلّموه مبلغاً من المال (2000 دولار)، على أن يتسلّم مبلغاً مماثلاً أسبوعياً، إلا أن الأخير رفض المبلغ، طالباً زيادته إلى 8 آلاف دولار. لذلك، يقرأ الخليل وعمّاه الإشكال الأخير على أنه «رسالة» لـ«المقصّرين» في الدفع مقابل الحماية.
رواية أخرى يجري تداولها في المنطقة وتصبّ أيضاً عند دمشق، ومفادها أن أحد «ضحايا» علي الخليل وعمَّيه، من المنافسين في «كار» المراهنات، لجأ إلى «الحاج أبو علي» طالباً الحماية مقابل مبلغ مالي كبير. وعلى أثر ذلك اتجه عامر محمد دمشق ويحيى محمد دمشق ويوسف عباس دمشق مع آخرين إلى محلّ يملكه مصطفى الخليل في شارع المصبغة حيث دارت المواجهات. ولكسب تعاطف شباب المنطقة، أشاع المقتحمون أن هدفهم تخليص المنطقة من «مركز قمار قيد الافتتاح»، الأمر الذي نجح بالفعل في جذب عدد من شباب المنطقة الرافضين لوجود هذه الآفة بينهم.
لا يخفي الجيران حقيقة أن مصطفى وخضر الخليل يديران «مصلحة القمار» منذ زمن بعيد بالشراكة مع أمنيين ونافذين، وقد انضم إليهما لاحقاً علي نمر الخليل الذي شغّل جزءاً من أموال القمار في أعمال المضاربات على الدولار أخيراً، رغم أن الشركة التي يديرها مع عمَّيه تدرّ أموالاً طائلة، خصوصاً بعد رواج لعبة الرهانات الإلكترونية، وتحوّل شركتهم التي تدير وكالة حصرية لشركة مراهنات أجنبية إلى مركز رئيسي للمراهنات الإلكترونية على مستوى كل لبنان، وليس فقط الضاحية.
وعليه، يعرف الأهالي أن ما جرى السبت ليس عملية مكافحة القمار، كما روّج دمشق وإخوانه، بل حلقة من ضمن سلسلة لا تنتهي من الصراع على النفوذ والخوّات بين «أمراء الأحياء» الذين يقتسمون المنطقة ومواردها وأهاليها. ويؤكد مَن شاهد «حلقة السبت من المسلسل الطويل» أن المتورطين في الإشكال من آل دمشق يمكن اعتبارهم «أحدث ظاهرة» تشهدها الشياح، إذ يسيطرون على المشهد فيها منذ تسعينيات القرن الماضي، مستفيدين من مرجعيتهم السياسية التي طالما عملت على «لملمة» ملفاتهم الأمنية الكثيرة، وهم يعملون تحت غطاء ديني متمثّل بـ«جمعية محبي أهل البيت» و«الحسينية / الخيمة» التابعة لها، وهي الذريعة التي برّر بها رئيس مكتب أمن الضاحية العقيد ماهر رعد عدم مداهمته لمنازل آل دمشق إثر الإشكال، كما داهم منازل علي الخليل وعمَّيه.
في خلفية المشهد، تقف قيادة حركة أمل في الشياح في موقف لا تُحسد عليه. فهي وإنْ سهّلت دخول إحدى وسائل الإعلام لتغطية «استصراحات» بعض الأهالي وشهاداتهم بحق أحد طرفي النزاع، إلا أنها «غير مسرورة» حيال تزايد حدّة التذمّر الشعبي من أفعال ابن قائدها الراحل نمر الخليل وأخويه من جهة، وأبناء شقيق مسؤول أمن الرئيس بري وثقته، من جهة ثانية. وإذا كانت حركة أمل «الرسمية» في الشياح لا ترغب في أن يتغوّل آل دمشق ليصبحوا أقوى من التنظيم، فهي أيضاً تُحاجّ بأن علي نمر الخليل مفصول من التنظيم، كما أن أياً من عمَّيه مصطفى وخضر غير منظّمين. رغم ذلك، نشطت قيادة الحركة منذ لحظة تفجّر الوضع بين الطرفين المحسوبين عليها، في مساعي التهدئة، وهي تقود جهوداً للمصالحة بينهما يُتوقع أن تُثمر قريباً.
ويبقى أهالي الشياح الحلقة الأضعف في مسلسل الصراع على النفوذ والمصالح هذا. فإذا كانت بلدية الغبيري قالت في بيان رئيسها معن الخليل، إن مَن يتحمل المسؤولية الكاملة عمّا حصل هي القوى الأمنية التي لم تعمل لنزع مظاهر الآفات الاجتماعية والميليشيوية من الأحياء في الغبيري بالرغم من المتابعة والتحذير الدائميْن من هذه الظواهر. يبدو أن «الأمن بالتراضي» سيكون، عنوان المرحلة في ظل غياب الدولة و«اعتبارات» أحزاب المنطقة، وهو واقع لن ينفع معه توجّه البلدية لاتخاذ صفة الادّعاء الشخصي على كل مَن يُظهره التحقيق، إنْ أظهر التحقيق أحداً.