مفاضلة بين حَربَين: "كنا نملك المال و"ترف" سقف يأوينا"

يستحضر النازحون من قرى الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، صُوَرَ حرب تموز 2006 ويقارنون بها أحوالهم خلال حرب تشرين الأول 2023. وتأتي الخلاصة سريعاً، أنه بعد نحو 17 عاماً، تبدَّلَت الكثير من الأمور واتّجهت نحو الأسوأ، وما زالت تسير باتجاه المزيد من التأزُّم مع تخطّي الحرب الجارية عامها الأوّل وقتامة أفق الحلّ.

وأوَّل ما يُرعِب النازحين، ليس حجم الدمار والقتل الذي اعتادوه على مدى عقود من الحروب مع العدو الإسرائيلي، بل هو حجم انحلال الدولة وانهيار قدرتهم المالية. فمَن كان قادراً على تأمين معيشته وتمويل نزوحه قبل 17 عاماً، بات أمامه اليوم العيش في مراكز الإيواء منتظراً إعانات الجمعيات الأهلية أو البقاء في منزله منتظراً صواريخ إسرائيل. أما الاتّكال على الدولة فيعني "انتظار وعودٍ لن تتحقَّق".


معاناة مزدوجة
الحرب هي الحرب، مساحة للقتل والتشريد، ولا أحد يحبّذ المفاضلة بين حربٍ وأخرى. إلاّ أن ما وصَلَ إليه الناس من انهيار سياسيّ واقتصادي واجتماعي، جعَلَهم يقارنون أحوالهم بين حربٍ وأخرى، ويفضِّلون لو أن ما يعيشونه اليوم مشابه لما عاشوه في حرب تموز 2006.

قبل 17 عاماً كان حسين طالباً في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية فرع النبطية. خَرَجَ مع أهله من مدينة صور إلى قرية برجا في إقليم الخرّوب. "وبسهولة استأجَرَ والدي بيتاً في تلك القرية". لا يذكر حسين قيمة الإيجار حينها، وفق ما يؤكّده لـ"المدن"، لكن أسلوب العيش يومها، دلّ على أن "ما كان يدفعه الوالد من إيجار منزل ومصاريف معيشية، كان بمتناوله، ولم يؤثِّر على حياتنا اليومية. أما اليوم فالوضع مختلف كليّا".

خَرَجَ حسين على عجل من مدينة صور، يوم الإثنين 23 أيلول الماضي. وهذه المرّة، أصبح أباً لطفلين وأستاذاً في التعليم الثانوي "وبَدَلَ الاعتماد على راتب أبي، بات لديّ اليوم عائلة يجب حمايتها وتأمين مسكن لها وطعام وكافة الاحتياجات. فضلاً عن أنّ أبي الذي كان موظّفاً في إحدى شركات توزيع المواد الغذائية، بات عاطلاً عن العمل، أي أنه بات ضمن مسؤوليّتي، خصوصاً أنّني الإبن الأكبر".

ومن منزل مُستأجَر يأوي العائلة المؤلَّفة من أب وأم و3 أولاد، بات حسين وزوجته وأولاده كعائلة، وشقيقه وشقيقته ووالده ووالدته كعائلة أخرى، نزلاء مدرسة رسمية في مدينة صيدا "بلا مصادر دخل كافية لتأمين الأكل والشرب على الأقلّ". ويعتمد حسين على "فتات تقدّمه الدولة للأساتذة على شكل رواتب ومساعدات اجتماعية وتسميات مخجلة لا تسدّ حاجة عائلتي الصغيرة، فكيف بعائلتي الأكبر؟".

ما يعيشه حسين وعائلته "معاناة مزدوجة. وجهها الأوّل أننا فقدنا القدرة على إعالة أنفسنا ونعيش اليوم في مدرسة، ووجهها الثاني أننا موظّفون رسميون تخلَّت عنّا دولتنا سواء لجهة عدم تأمينها رواتب لائقة أو لجهة عدم تأمينها احتياجات نزوحنا".


المتقاعدون ليسوا أفضلَ حالاً
قصص كثيرة يحملها أمين سرّ الهيئة الوطنية للمحاربين القدامى، العسكري المتقاعد عماد عواضة، تعكس معيشة موظّفين أحيلوا إلى التقاعد علَّهم يكملون ما تبقّى من حياتهم بهدوء وكرامة، فأبت الدولة إلاّ أن تزيد صخب معاناتهم وتدفعهم إلى تمنّي العودة للحرب السابقة.

في حرب تموز 2006 كان بعض متقاعدي السلك العسكري لا يزالون في الخدمة وتمكَّن جلّهم من استئجار منازل في أماكن آمنة، نقلوا عائلاتهم إليها، وتابعوا هُم خدمتهم العسكرية بشكل طبيعي. أما اليوم، انتقل هؤلاء إلى التقاعد في ظل انهيار اقتصادي لم يعطهم الفرصة لالتقاط أنفاسهم. ففقدت رواتبهم التقاعدية قيمتها الشرائية، وبات عليهم في ظل الحرب الراهنة، البحث عن منازل آمنة بإيجارات خيالية "أو الذهاب نحو مراكز الإيواء، أو اتخاذ خيار البقاء في القرى غير الآمنة واختيار الموت على الذل"، وفق ما يؤكّده عواضة لـ"المدن".

بعض العسكريين المتقاعدين "قصفَت منازلهم وأصبحوا بلا مأوى". وما زاد الوضع سوءاً، هو خسارتهم مصدر قوْتِهم. فبحسب عواضة "حاوَلَ العسكريون المتقاعدون إيجاد عمل بعد انهيار قيمة رواتبهم، وعملوا في مهن مختلفة، لكنهم أجبِروا بفعل الحرب على ترك قراهم وأعمالهم المستجدّة ليتشرّدوا بكل ما للكلمة من معنى، بفضل الدولة التي تعطي العسكري 200 دولار وتعِده بمزيد من المساعدات على غرار المساعدات المدرسية التي تتراوح قيمتها بين 400 إلى 500 دولار، والعسكريون بأمسّ الحاجة لها في ظل هذه الظروف".

لكن وعود الدولة تبقى كلاماً معسولاً بدون تنفيذ. فحتّى اللحظة "لا يزال دفع المساعدات المدرسية عالقاً في وزارة المالية، في حين أن بعض العسكريين المتقاعدين ينامون اليوم مع عائلاتهم في شوارع بيروت، وخصوصاً في ساحة الشهداء".

يصرّ عواضة على حلّ مشكلة تحويل المساعدات المدرسية قبل أي أمر آخر، لأن قيمتها تمكِّن العسكريين المتقاعدين من شراء الكثير من الاحتياجات، وإن لم تستطع انتشالهم من أزمتهم بالكامل "فهناك مَن يناشد لأجل ربطة خبز، والبعض يطلب فرش ومخدات وأغطية".

يأسف عواضة لما وصلت إليه أوضاع العسكريين سواء المتقاعدين أو الذين لا يزالون في الخدمة، فهؤلاء ليسوا أفضل حالاً، وينتظرهم مصير أسود حين تقاعدهم. ويروي أن أحد العسكريين في الخدمة "تَرَك عائلته في البقاع والتحَقَ بمكان خدمته في بيروت، وفي حال حصول غارات إسرائيلية على المنطقة، أوصى العسكريّ عائلته بالخروج إلى العراء وعدم البقاء في المنزل، تفادياً لاحتمال الموت تحت ركامه في حال استهدافه. إذ فضَّلَ العسكريّ هذا الإجراء على حمل عائلته وتركها أمام الذلّ في شوارع بيروت أو مراكز الإيواء".

خلاصة ما يمرّ به الناس اليوم هو "استخفاف الدولة بمعاناتهم". هذا الاستخفاف الذي أكَّدَ أن الدولة تركت شعبها وسط سيناريو معقَّد انفجر في العام 2019 وتكلَّلَ في العام 2023 ولا يزال مستمراً. وهذا الكمّ الهائل من السوء، يدفع الناس للترحُّم على ما عانوه في حرب تموز 2006.