مكانة إستثنائية للبنان في فكر الكنيسة الكاثوليكية...هذه محطاتها

يحتل لبنان موقعاً فريداً في علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالشرق، فمنذ القرون الوسطى، كانت العلاقة بين الموارنة والفاتيكان محورية في رسم المشهد الكنسي والسياسي في المنطقة، وفي العصر الحديث، أصبحت الزيارات البابوية للبنان محطات تحمل أبعاداً لاهوتية وسياسية وثقافية، خصوصاً في ظل الأزمات المتلاحقة التي يواجهها الشرق.

في ١٢ كانون الأول ١٩٦٤، وخلال توجهه في زيارة الى الهند توقف البابا "بولس السادس" لمدة خمسين دقيقة في مطار بيروت الدولي حيث كان في استقباله رئيس الجمهورية اللبنانية شارل الحلو والبطريرك المعوشي وحشد كبير من الشخصيات السياسية والدينية وحشود من المؤمنيين.

جاءت زيارة البابا "بولس السادس" في مرحلة كانت فيها الكنيسة الكاثوليكية تعقد جلسات المجمع الفاتيكاني الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥) وكانت تسعى الى تعزيز الانفتاح على الشرق، في المقابل كان لبنان يعيش فترة ازدهار اقتصادي وثقافي جعلته واجهة الشرق، وكانت العلاقة مع الكرسي الرسولي في أفضل حالاتها.

على الرغم من أنها لم تتجاوز الخمسين دقيقة، اكتسبت الزيارة رمزية كبيرة بسبب كونها أول زيارة بابوية للبنان، وقد أكد خلالها الحبر الاعظم على دور لبنان كجسر حضاري بين الشرق والغرب، وعلى تشجيع الوجود المسيحي في الشرق عبر بوابة لبنان.

شكلت هذه الزيارة تعزيز لصورة لبنان كبلد الحوار، ورسخت العلاقة الرسمية بين الدولة اللبنانية والفاتيكان.

الزيارة الثانية للبنان كانت للبابا "يوحنا بولس الثاني" بتاريخ ١٠ و١١ أيار ١٩٩٧، حيث استُقبل بحفاوة رسمية وشعبية غير مسبوقة.

أتت هذه الزيارة في وقت كان لبنان يعيش مرحلة اعادة الاعمار السياسي والاجتماعي، ويمرّ في أزمة هجرة خاصة مسيحية كانت في ذروتها، والاحباط كان سائداً بين مختلف الطوائف خصوصاً بعد هيمنة الاحتلال السوري على الحياة السياسية اللبنانية. 

قبل زيارته لبنان، دعا البابا "يوحنا بولس الثاني" الى عقد سينودس خاص في الفاتيكان من أجل لبنان، وقد أصرّ على أن يحضره ممثلون للطوائف الاسلامية اللبنانية، ليس بصفة مراقبين فحسب، بل بصفة مشاركين. شكلت تلك الدعوة سابقة في تاريخ مؤتمرات السينودس، اذ لم يسبق أن دعي اليها مسلم، كما انها كانت المرة الاولى التي يعقد فيها سينودس خاص ببلد معين، فالمجامع كانت تخصص للقارات. 

أعلن البابا الارشاد الرسولي:" رجاء جديد للبنان" خلال زيارته التي كانت تتويجاً لجهوده من أجل هذا البلد، هذا الارشاد الرسولي الذي ناقش دور الكنيسة، والعائلة، والشباب، والمصالحة الوطنية، 
كما كان لقائه مع الشباب اللبناني من أبرز محطات الزيارة والذي شهد حضوراً شبابياً جماهيرياً تاريخياً. 

ومن أبرز ما تركه البابا من أثر هو قوله "لبنان هو أكثر من وطن، انه رسالة" ويقصد بذلك ان لبنان يمثل نموذجاً فريداً للعيش المشترك يمكن للعالم أن يتعلّم منه. وقد كان لهذه الزيارة تأثير في تنشيط الحياة الكنسية بعد الحرب وتأكيد على دور لبنان وتعزيز الموقف الداعم لأستقلاله وسيادته.

الزيارة الثالثة أتت بعد إصرار البابا "بنديكتوس السادس عشر" عليها، بالرغم من التحديات الامنية الخطيرة التي كانت تواجه لبنان في العام ٢٠١٢، فقد كانت المنطقة في حالة اضطراب شديد بسبب الربيع العربي والثورة السورية، فحضر من ١٤ الى ١٦ أيلول من ذلك العام ووقع الارشاد الرسولي "الكنيسة في الشرق الاوسط" وذلك لدعم الكنائس المشرقية وتشجيعها على البقاء، وتعزيز دور لبنان كمكان وحيد لا يزال يجمع المسيحيين والمسلمين ضمن دولة واحدة قائمة على الحرية الدينية. 
شددّ البابا خلال زيارته على أهمية تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، ورفض العنف والتطرف، وعلى أهمية الحوار المسيحي-الاسلامي كخيار استراتيجي وليس شكلي. 
تركت زيارة البابا "بنديكتوس السادس عشر" انطباعاً قوياً لدى اللبنانيين بأن لبنان يشكل أرض الامل لكل الوجود المسيحي الهشّ في الشرق.

تكشف الزيارات البابوية المتتابعة أن لبنان يحتل مكانة استثنائية في فكر الكنيسة الكاثوليكية، ومع كل زيارة بابوية يعاد التأكيد على أن لبنان قيمة حضارية وروحية تسعى الكنيسة الى حمايتها، وهكذا فأن الزيارات البابوية ليست فقط تذكيراً بتاريخ طويل من العلاقة، بل تأكيداً على مستقبل مشترك بين لبنان والفاتيكان.