المصدر: النهار
الجمعة 3 أيار 2024 23:09:18
لم يستفق الرأي العام بعد من الفضيحة التي هزّت الشارع اللبناني بعد الكشف عن شبكة الدعارة والمخدرات التي كان بطلها المرئي جورج مبيض بالإضافة إلى وجوه أخرى استحوذت على شهرتها عبر فيديوات ترويجية على منصة "تيك توك"، والتي تتخفى وراءها أسماء أخرى ما زالت قيد الكتمان.
هذه الفضيحة التي أسدلت الستار على قضية خطيرة عنوانها العريض "الإتجار بالبشر" بوجوه متعددة، بدءًا من استدراج القصّر مروراً بالاعتداءات الجنسية والإجبار على تعاطي المخدرات وصولاً إلى الابتزاز والتزوير والسفر لتقديم خدمات جنسية للخارج.
تُعيد هذه الفضيحة إلى الأذهان فضيحة أخرى مشابهة باستغلالها وقسوتها في العام 2016 حين استفاق اللبنانيون على توقيف أكبر شبكة للاستغلال الجنسي والإتجار بالبشر، وعُرفت بشبكة "شي موريس" ترأسها فوّاز الحسن وعاونه فيها كلّ من موريس جعجع وعماد الريحاوي، والتي احتجز فيها نحو 75 فتاة لسنوات عديدة.
يومها، حاول كثيرون التدخل، لـ"ضبضبة" الفضيحة التي كشفت عن وقوع نساء وفتيات سوريات ولبنانيات ضحايا الاستغلال الجنسي والإتجار بهن، في فندق "شي موريس" وملهى "سيلفر بي"، في منطقة المعاملتين.
منذ العام 2016 حتى العام 2024، ما زالت جلسات المحاكمة في قضية "شي موريس" في مراحلها الأولى في محكمة الجنايات نتيجة الإضرابات التي رافقت القطاع القضائي (قضاة ومحامين) وهشاشة العمل والواقع القضائي المترنح.
وتحتل جريمة الإتجار بالبشر المرتبة الثالثة من التجارة التي تُدر أرباحاً طائلة حول العالم، حيث تتصدر تجارة الأسلحة القائمة تليها تجارة المخدرات. وتُقدر الأمم المتحدة عدد ضحايا الإتجار بالبشر في جميع أنحاء العالم بنحو 27.6 مليون شخص.
وقد حذر الأمين العام للإنتربول يورغن شتوك من أن ما "بدأ كتهديد إجرامي إقليمي قد تحوّل إلى أزمة إتجار بالبشر على الصعيد العالمي".
وأضاف: "يمكن لأيّ كان في العالم أن يقع ضحية إما للإتجار بالبشر أو لعمليات احتيال إلكتروني تُنفَّذ عبر هذه المراكز الإجرامية".
ويشير إلى أن ظاهرة جرائم الإتجار بالبشر تتفاقم في دول تشهد نزاعات وحروباً أو النزوح أو واقع اقتصادي واجتماعي هشّ، ويسهل في تلك المجتمعات اصطياد الضحايا وهم غالباً ما يكونون هشّين وضعفاء وفي واقع اجتماعي واقتصادي صعب.
يسعى المتاجرون أو أصحاب الشبكات الإجرامية إلى استغلال نقاط ضعف ضحاياهم وسط الفوضى والاضطرابات وغياب المحاسبة. وربما هذه الأسباب تُحاكي واقع لبنان الذي ينخره الفساد والفوضى والإفلات من العقاب، ويدفع هذه الشبكات إلى إيجاد أرض خصبة لإيقاع ضحاياهم وجني أرباح طائلة وأحياناً تكون بعلم بعض الأجهزة والمعنيين.
وانطلاقاً من فضيحة شبكة "التيكتوكرز" وتورط رؤوس كبيرة فيها في لبنان والخارج، ونشاطها الاجرامي الذي استمر لسنوات عديدة قبل كشفها، نتساءل قلقين حول تنامي هذه الظاهرة في لبنان والعالم وامتدادها كالعنكبوت بعيداً عن كل الأخلاقيات والإنسانية والضمير من أجل المال واللذة والشرّ.
لا تزال أسباب تمويل حفلات الاغتصاب وتنظيمها قيد التحقيق، وقد ربط بعضها مع "دارك ويب" الذي يعتبر مسرح الجرائم الإلكترونية حيث نشهد عرض بث مباشر لجرائم تعذيب وقتل واغتصاب أطفال ونساء، وبيع الأعضاء البشرية، مقابل الحصول على مبالغ من المال".
وفي انتظار ما ستكشفه التحقيقات المتواصلة والتكتم الذي يرافق هذه القضية حفاظاً على سريتها، والحديث عن رؤوس كبيرة متورطة في هذه القضية، نعود إلى إشكالية أساسية عنوانها "تفاقم ظاهرة الإتجار" في لبنان للبحث عن أسبابها، والأهم محاربتها.
كانت رئيسة الشؤون القانونية والمناصرة في قسم الإتجار بالبشر في منظمة "كفى" المحامية موهانا إسحاق من المتابعين الأساسيين لفضيحة "شي موريس"، نسألها عن هذه الظاهرة الخطيرة لنغوص معها في هذا العالم المخيف وتداعياته على الفئات الهشة والضعيفة.
تشرح إسحاق أن "الإتجار بالبشر جريمة خطيرة تحتل المرتبة الثالثة حول العالم بعد تجارة الأسلحة والمخدرات. ويجب أن تتوفر 3 عناصر أساسية لحسم ما إذا كانت هذه القضية ضمن جرائم الإتجار بالبشر وهي:
* العنصر الأول - الفعل: استقطاب الأشخاص
* العنصر الثاني - الاستغلال: يصبح العنصر الأول وسيلة لإتمام العنصر الثاني بطرق مختلفة : الإكراه – الخداع- الاحتيال- الاستغلال.
* العنصر الثالث- الاستغلال الفعلي: وله عدة أشكال مثل الاستغلال الجنسي أو العمل القسري- استغلال بيع الأعضاء وتشغيل الأطفال في النزاعات المسلحة.
وعليه، استناداً إلى فضيحة شبكة "التيكتوكيرز" تقول اسحاق إننا أمام استغلال جنسي بسبب توفر العنصر الثالث، ما يعني أننا أمام قضية إتجار بالبشر.
مما لا شك فيه أن سهولة الوصول إلى الضحايا بسبب مواقع التواصل الاجتماعي وغياب الرقابة ساعد على تنشيط عمل هذه الشبكات بصورة واضحة، مقابل عدم مواكبة لبنان لقوانين تحاكي سرعة التطور التكنولوجي واكتفائه بقانون العقوبات وقانون الإتجار بالبشر الذي يتطلب تحديثاً اليوم.
ومن أكثر الأسباب التي تؤدي إلى تنامي ظاهرة الإتجار بالبشر تُعيدها إسحاق إلى الحروب والنزوح والواقع الاقتصادي الهشّ. أما على المستوى الشخصي فتعود إلى التفكك العائلي والمشاكل العائلية والعنف والفقر التي تُؤمن الأرضية الخصبة لواقع هشّ وتجعل القصّر والفئات الضعيفة عرضة للاستغلال من قبل أناس أو شبكات. وكلما زاد التخطيط ارتفع منسوب الفساد أكثر على مختلف المستويات"
في فضيحة "شي موريس" استند رئيس الهيئة الاتهاميّة في جبل لبنان القاضي إلياس عيد إلى قانون مكافحة الإتجار بالبشر رقم 164/2011 بالإضافة إلى مواد من القانون ليصدر قراره الاتهامي الذي تركّز على توجيه الاتهامات بالإتجار بالبشر وتأليف عصابة تمارس الرقّ والاستعباد بحق فتيات ضُربن وعُذّبن واغتُصبن وأُجبرن على ممارسة الدعارة بالقوّة والترهيب.
في حين يترقب اللبنانيون ما ستتوصل إليه التحقيقات والرواية الكاملة لهذه الجريمة النكراء، والأهم المحاسبة السريعة وإصدار الأحكام الجرمية بحق كل متورط. برأي إسحاق "الدولة من دون قضاء ليست بدولة. ويتجلى الفساد بأبهى حلله عند عدم الوصول إلى العدالة في هذا النوع من الجرائم. كما نحتاج إلى تحديث القوانين التي تواكب التطور الإلكتروني والسرعة التي يسير بها وتكثيف التوعية الاجتماعية حول هذه الجرائم بهدف الحدّ منها وتأمين مستوى كافٍ من الحماية".
وتخوف من وجود جرائم مشابهة لم تُكتشف بسبب الفساد وصعوبة ضبطها نتيحة محدودية قدرات القوى الأمنية. لذلك نحتاج إلى "نفضة" كبيرة لإصلاح هذا البلد، وفي حال لم نعزز قدرة القضاء ليكون سلطة مستقلة يقاضي المجرمين من أعلى الهرم حتى أسفله، سنبقى نسمع بهذه الجرائم.
وفق أرقام جمعية "حماية" تعرض نحو 1932 طفلاً في لبنان إلى العنف من الفترة الممتدة من كانون الثاني إلى أيلول في العام 2023 مقارنة بـ 1858 في العام 2022.
أثارت قضية شبكة "التيكتوكيرز" تساؤلات عديدة ومشروعة حول دور الأهل في مراقبة أولادهم وعن أسباب امتناع المحيطين بالمتهمين في هذه القضية بالإبلاغ عن سلوكهم المشبوه وتردد بعض العائلات التي وقع ابناؤهم ضحية الاعتداءات الجنسية في التوجه إلى الجهة الرسمية للإبلاغ ورفع الدعاوى، والأهم خوف الضحايا من الحديث إلى أهلهم عما تعرضوا له.
وعن هذا المشهد التي يفتقد إلى كثير من العناصر لتأمين الحماية الاجتماعية، يبرز البحث عن الأسباب الاجتماعية التي لعبت دوراً في الوصول إلى هذه النتائج الكارثية وما نحتاج إليه لحماية أبنائنا من الاستغلال الجنسي وغيره من الاعتداءات المؤذية.
توضح أستاذة علم الاجتماع العائلي والتربوي في معهد العلوم الاجتماعية-الفرع الثالث_ الجامعة اللبنانية جنات الخوري جبور أنّ وسائل التواصل الاجتماعي سيف ذو حدّين، إلا أن المسؤولية الكبرى تقع على الأهل لاسيما في موضوع الرقابة والمصارحة وبناء الثقة بينهم وبين أبنائهم. هناك قسم لا بأس به من الأهل مأخوذون بهوس المواقع الاجتماعية والجلوس لساعات على الهواتف أو منشغلون عن تربية أطفالهم، ما يزيد الهوة بينهم، بالإضافة إلى أن الأطفال ينظرون إلى سلوكيات أهلهم على أنهم قدوة لهم ويتأثرون بهم.
وتعزز هذه البيئة الضعيفة جنوح الأولاد والمراهقين والبحث عن بديل يؤمن هذه الراحة النفسية التي تكون غير مستقرة. وترى جبور أنّ "هذه الشبكة ليست وحيدة، ويوجد قصص كثيرة مشابهة لا نعرف بها. لذلك نحن بحاجة إلى تكثيف التوعية للأهل كما الأطفال حول مخاطر ما قد يتعرض له الأبناء في هذا العالم الافتراضي والواقعي على حدّ سواء، وتعزيز الحوار والتفاهم حتى يتمكن الولد أو المراهق من الحديث عما يشعر به والأهم ما يتعرض له حتى لا يتخبط وحيداً في وجعه.
كما يجب تكثيف حملات التوعية في المدارس للحديث أكثر حول المخاطر الحقيقية لبعض المحتويات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي".
وتنظر جبور إلى شبكات الدعارة والمخدرات التي تنتشر في لبنان والعالم على أنها تعمل بمنهجية واضحة بهدف تحطيم الجيل الجديد الذي هو المستقبل. ويتقصد المجرمون اصطياد ضحاياهم بدقة حيث يختارون الفئات الأكثر هشاشة.
وللأسف يشهد مجتمعنا أزمة اجتماعية واضحة وارتفاعاً في حالات التفكك العائلي والطلاق والمشاكل الزوجية التي تؤثر على نمو الطفل النفسي وتبرر هروبه النفسي إلى عالم أخطر. كما أظهرت الأزمة الاقتصادية هشاشة الحياة الزوجية ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً في تعزيز الزيف الافتراضي وثقافة الصورة وعدم الرضا وغيرها...
وخلاصة لهذا الواقع المتردي، تبقى المحاسبة أساسية لبناء مجتمع آمن، ويبقى فضح كل الأسماء خطوة رئيسية لبناء قضاء مستقل وإلا على "الدنيا سلام".