المصدر: اساس ميديا
الكاتب: عماد الشدياق
الخميس 12 أيلول 2024 08:55:33
في كلّ دول العالم تقريباً، تسعى الحكومات إلى تقليص النفقات بينما يحاول البرلمان زيادتها من أجل “إرضاء الناخبين”… إلّا في لبنان: تعكف الحكومة على زيادة تلك النفقات، في الموازنة تلو الموازنة. وتوكل مهمّة “التشحيل والتهذيب” إلى لجنة المال والموازنة ثمّ الهيئة العامّة من أجل الخروج بقانون موازنة بأقلّ أضرار ممكنة.
مشروع الموازنة الذي أحالته وزارة المالية إلى مجلس الوزراء قبل يوم واحد من انتهاء المهلة الدستورية ينطبق عليه هذا الوصف. بل أكثر من ذلك، فإنّ المسوّدة المؤلّفة من 1,000 صفحة تهمس في أذن المطّلع على بنودها وتقول إنّ “الحكومة بلا ذاكرة ومفصومة، بعدما عادت تدير لعبة رسم الموازنات بعقليّة ما قبل الأزمة، بل بعقلية ما قبل الاتفاق المبدئيّ مع صندوق النقد الدولي”.
تُجاهر الحكومة بعجز مشروعها بنحو 200 مليون دولار، ثمّ تجرّها وقاحتها إلى البوح في المشروع نفسه بنيّتها الاستدانة مجدّداً بواسطة إصدار السندات، من دون أن تخبرنا عن الجهة “المجنونة” التي سوف تكون مستعدّة للاستثمار بسندات جديدة صادرة عن حكومة “متعثّرة” لم تتحدد عن مصير ديونها بدفاترها القديمة منذ ما يقرب 5 سنوات!
ملاحظات ضروريّة
على الرغم من أنّ البحث المعمّق والدقيق بمشروع موازنة يُفترض أن يُنسف في البرلمان، هو ضرب من ضروب الترف، وصرف الجهد على شيء لا يُبنى عليه في “أحرفه الأولى”… إلّا أنّ تسجيل بعض الملاحظات على مسوّدة موازنة عام 2025 كان أمراً لا بدّ منه:
– تضع الحكومة مسوّدة موازنة 2025 من دون قطع حساب الموازنة السابقة لعام 2024. وهذا اعتراف ضمنيّ وصريح من وزارة المالية بأنّ كلّ الأرقام الواردة في مسوّدة موازنتها الجديدة ليست دقيقة ومبنيّة على تقديرات لا أساس حسيّاً وقانونيّاً لها، وبعيدة عن الشفافية المالية ومخالفة للدستور.
– بما أنّ المصرف المركزي يستمرّ برفضه تمويل الدولة بشكل قاطع، وهذا أمر يُشكر عليه حاكم مصرف لبنان الحالي وسيم منصوري، فإنّ الموازنة لا بدّ من أن تكون ذات عجز صفريّ. لكنّ هذا لن يحصل في المشروع المعروض.
– مشروع الموازنة لعام 2025 المعروض أمام الحكومة يشكو من عجز يصل إلى 200 مليون دولار، نتيجة رفع الإيرادات إلى 4.6 مليارات دولار. ثمّ رفع النفقات في المقابل إلى 4.8 مليارات دولار. تبرّر أوساط وزارة المالية العجز بأنّه “متواضع” ولا يتعدّى 1% من الناتج المحلّي الإجمالي. مفترضة أنّ هذا الناتج اليوم هو 20 مليار دولار… وهذا رقم ليس ما يؤكّده أو ينفيه في ظلّ الفوضى المالية والنقدية (بعض وكالات التصنيف امتنعت عن إصدار تقارير حول لبنان نتيجة هذه الفوضى واللاشفافية المالية). ناهيك عن المعلومات التي بدأت تتكشّف عن نيّة بدأت بالتسلّل إلى أذهان الوزراء في الحكومة، لزيادة رواتب القطاع العام بقرابة 30%. وهذا بدوره يعني أيضاً أنّ العجز سوف يزيد بمقدار 111 مليون دولار (10 آلاف مليار بما أنّ مخصّصات الرواتب المقترحة لعام 2025 هي 31,255 مليار ليرة).
“حلب” الموارد والابتعاد عن التنويع
– تخفّف أوساط وزارة المالية من وطأة زيادة النفقات (زادت قرابة 35%) بالقول إنّها لم تفرض ضرائب جديدة. لكنّها تعترف بالأرقام أنّها رفعت الضرائب والرسوم التي كانت قد رفعتها أصلاً في موازنة عام 2024، أي أنّ النتيجة نفسها… فما الفرق بين فرض ضرائب جديدة أو رفع القديمة ما دام الهدف نفسه (زيادة الإيرادات)؟ بل على العكس من ذلك، فإنّ زيادة الضرائب والرسوم نفسها تعني التركيز على “حلب” أهمّ الموارد والابتعاد عن التنويع، بدليل أنّ الحكومة لم تقترب من قطاعات كان يمكن لها أن تزيد إيراداتها منها، من دون إرهاق المواطنين بضرائب أعظم، مثال الضرائب على الأملاك البحرية المحدّدة بصفر في مشروع الموازنة.
– تركّزت الإيرادات على استيفاء الضريبة على القيمة المضافة (بنسبة 11%)، التي وصلت تقديراتها إلى قرابة 1.6 مليار دولار، أو 45% من العائدات الضريبية، أي على الاستهلاك… وهذا بدوره سيتسبّب بزيادة التضخّم في ظلّ الفلتان في الأسواق.
– تتغنّى وزارة المالية بزيادة النفقات الاستثمارية على مشاريع البنى التحتية، وخصوصاً الطاقة والمياه، بنسبة وصلت إلى 10% من النفقات. لكنّها لم تخبر المواطنين من أين ستأتي الحكومة بالعملات الصعبة من أجل تنفيذ تلك المشاريع، في ظلّ شحّ تلك العملات في خزائنها، ومحدودية قدرة مصرف لبنان المتّهم دوماً وزوراً بالتقصير على التدخّل من أجل جمع الدولارات. بل أكثر من ذلك، في ظلّ جرأة وزير الطاقة على القول إنّنا محاصرون من الولايات المتحدة “طاقويّاً”، بينما التيار الذي ينتمي إليه يرفض تحرير قطاع الطاقة من خلال رفض تشكيل الهيئة الناظمة للقطاع منذ سنوات… وهذا يدلّل على عدم التنسيق بين الوزارات في أشدّ الملفّات تبايناً وخطورة مثل الكهرباء.
أين الجانب الاقتصاديّ – الاجتماعيّ؟
– على غرار موازنة العام الفائت، تفتقر المسوّدة للخطّة الاقتصادية – الاجتماعية. بتعبير أوضح للقارىء: إذا كانت الحكومة ترى أنّ مصدر دخل البلاد الأكبر يتأتّى من السياحة مثلاً، فإنّ موازنتها – الخطة تكون موجّهة في مشاريعها وفي إنفاقها على تحسين البنى التحتية (كهرباء، ماء، شبكة طرقات، إنترنت…). وبينما إيراداتها من هذا القطاع متوازنة، تحفّز الفنادق والمقاهي وتحضّ البلديات على تنظيم القرى والمعالم السياحية… فيكون ذلك واضحاً وجليّاً بالأرقام وبالتوصيات. إلّا أنّ هذا الأمر مفقود كليّاً في المسوّدة المعروضة. فالموازنة الحالية المقدّمة من وزارة المالية عبارة عن عملية قيد حسابيّ للمصاريف والإيرادات بلا أيّ رؤية اقتصادية مستقبلية.
هذا يقودنا للقول إنّ قانون المالية العامة في لبنان برمّته بات بحاجة إلى مراجعة شاملة من أجل إحداث تغيير في عقلية وزارة المالية. والتحوّل من “موازنة البنود” التقليدية التي تعتمد صُوَريّاً على مبادىء التوازن، الشمولية، الوحدة، الشيوع، السنوية، إلى موازنات “البرامج” و”الأداء” الحديثة التي تهتمّ بشكل فعّال بمبادىء الشفافية، الفاعلية، التشاركية، الموثوقية، الاستقرار والمساءلة.
– زيادة منسوب الضرائب في الموازنة ستؤدّي حتماً إلى ضعف الاستثمار، وستؤثّر سلباً على الاستهلاك. الزيادة في ظلّ “اقتصاد الكاش” ستسهم كذلك في زيادة التهرّب الضريبي. وتعرّض لبنان أكثر فأكثر لخطر إدراجه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF). فهذه الزيادة المبالغ بها في منسوب الضرائب قد لا تزيد بالضرورة حجم الإيرادات مثلما هو متوخّى ومتوقّع. بل ستؤدّي مع الوقت إلى زيادة معدّلات الهجرة نتيجة تراجع الأعمال وتفاقم الأعباء والمصاريف التشغيلية.
– لم تلجأ وزارة المالية إلى مصادر بديلة عن الضرائب، مثل: الأملاك البحرية، مكافحة التهرّب الضريبي، وضبط المعابر البرّية والبحرية والجوّية، وتطبيق بعض القوانين التي أقرّها البرلمان ولم تُطبّق إلى الآن، مثل قانون سلامة السير، وقانون منع التدخين في الأماكن العامّة.
في كلّ دول العالم تقريباً، تسعى الحكومات إلى تقليص النفقات بينما يحاول البرلمان زيادتها من أجل “إرضاء الناخبين”… إلّا في لبنان: تعكف الحكومة على زيادة تلك النفقات، في الموازنة تلو الموازنة. وتوكل مهمّة “التشحيل والتهذيب” إلى لجنة المال والموازنة ثمّ الهيئة العامّة من أجل الخروج بقانون موازنة بأقلّ أضرار ممكنة.
مشروع الموازنة الذي أحالته وزارة المالية إلى مجلس الوزراء قبل يوم واحد من انتهاء المهلة الدستورية ينطبق عليه هذا الوصف. بل أكثر من ذلك، فإنّ المسوّدة المؤلّفة من 1,000 صفحة تهمس في أذن المطّلع على بنودها وتقول إنّ “الحكومة بلا ذاكرة ومفصومة، بعدما عادت تدير لعبة رسم الموازنات بعقليّة ما قبل الأزمة، بل بعقلية ما قبل الاتفاق المبدئيّ مع صندوق النقد الدولي”.
تُجاهر الحكومة بعجز مشروعها بنحو 200 مليون دولار، ثمّ تجرّها وقاحتها إلى البوح في المشروع نفسه بنيّتها الاستدانة مجدّداً بواسطة إصدار السندات، من دون أن تخبرنا عن الجهة “المجنونة” التي سوف تكون مستعدّة للاستثمار بسندات جديدة صادرة عن حكومة “متعثّرة” لم تتحدد عن مصير ديونها بدفاترها القديمة منذ ما يقرب 5 سنوات!
ملاحظات ضروريّة
على الرغم من أنّ البحث المعمّق والدقيق بمشروع موازنة يُفترض أن يُنسف في البرلمان، هو ضرب من ضروب الترف، وصرف الجهد على شيء لا يُبنى عليه في “أحرفه الأولى”… إلّا أنّ تسجيل بعض الملاحظات على مسوّدة موازنة عام 2025 كان أمراً لا بدّ منه:
– تضع الحكومة مسوّدة موازنة 2025 من دون قطع حساب الموازنة السابقة لعام 2024. وهذا اعتراف ضمنيّ وصريح من وزارة المالية بأنّ كلّ الأرقام الواردة في مسوّدة موازنتها الجديدة ليست دقيقة ومبنيّة على تقديرات لا أساس حسيّاً وقانونيّاً لها، وبعيدة عن الشفافية المالية ومخالفة للدستور.
– بما أنّ المصرف المركزي يستمرّ برفضه تمويل الدولة بشكل قاطع، وهذا أمر يُشكر عليه حاكم مصرف لبنان الحالي وسيم منصوري، فإنّ الموازنة لا بدّ من أن تكون ذات عجز صفريّ. لكنّ هذا لن يحصل في المشروع المعروض.
– مشروع الموازنة لعام 2025 المعروض أمام الحكومة يشكو من عجز يصل إلى 200 مليون دولار، نتيجة رفع الإيرادات إلى 4.6 مليارات دولار. ثمّ رفع النفقات في المقابل إلى 4.8 مليارات دولار. تبرّر أوساط وزارة المالية العجز بأنّه “متواضع” ولا يتعدّى 1% من الناتج المحلّي الإجمالي. مفترضة أنّ هذا الناتج اليوم هو 20 مليار دولار… وهذا رقم ليس ما يؤكّده أو ينفيه في ظلّ الفوضى المالية والنقدية (بعض وكالات التصنيف امتنعت عن إصدار تقارير حول لبنان نتيجة هذه الفوضى واللاشفافية المالية). ناهيك عن المعلومات التي بدأت تتكشّف عن نيّة بدأت بالتسلّل إلى أذهان الوزراء في الحكومة، لزيادة رواتب القطاع العام بقرابة 30%. وهذا بدوره يعني أيضاً أنّ العجز سوف يزيد بمقدار 111 مليون دولار (10 آلاف مليار بما أنّ مخصّصات الرواتب المقترحة لعام 2025 هي 31,255 مليار ليرة).
“حلب” الموارد والابتعاد عن التنويع
– تخفّف أوساط وزارة المالية من وطأة زيادة النفقات (زادت قرابة 35%) بالقول إنّها لم تفرض ضرائب جديدة. لكنّها تعترف بالأرقام أنّها رفعت الضرائب والرسوم التي كانت قد رفعتها أصلاً في موازنة عام 2024، أي أنّ النتيجة نفسها… فما الفرق بين فرض ضرائب جديدة أو رفع القديمة ما دام الهدف نفسه (زيادة الإيرادات)؟ بل على العكس من ذلك، فإنّ زيادة الضرائب والرسوم نفسها تعني التركيز على “حلب” أهمّ الموارد والابتعاد عن التنويع، بدليل أنّ الحكومة لم تقترب من قطاعات كان يمكن لها أن تزيد إيراداتها منها، من دون إرهاق المواطنين بضرائب أعظم، مثال الضرائب على الأملاك البحرية المحدّدة بصفر في مشروع الموازنة.
– تركّزت الإيرادات على استيفاء الضريبة على القيمة المضافة (بنسبة 11%)، التي وصلت تقديراتها إلى قرابة 1.6 مليار دولار، أو 45% من العائدات الضريبية، أي على الاستهلاك… وهذا بدوره سيتسبّب بزيادة التضخّم في ظلّ الفلتان في الأسواق.
– تتغنّى وزارة المالية بزيادة النفقات الاستثمارية على مشاريع البنى التحتية، وخصوصاً الطاقة والمياه، بنسبة وصلت إلى 10% من النفقات. لكنّها لم تخبر المواطنين من أين ستأتي الحكومة بالعملات الصعبة من أجل تنفيذ تلك المشاريع، في ظلّ شحّ تلك العملات في خزائنها، ومحدودية قدرة مصرف لبنان المتّهم دوماً وزوراً بالتقصير على التدخّل من أجل جمع الدولارات. بل أكثر من ذلك، في ظلّ جرأة وزير الطاقة على القول إنّنا محاصرون من الولايات المتحدة “طاقويّاً”، بينما التيار الذي ينتمي إليه يرفض تحرير قطاع الطاقة من خلال رفض تشكيل الهيئة الناظمة للقطاع منذ سنوات… وهذا يدلّل على عدم التنسيق بين الوزارات في أشدّ الملفّات تبايناً وخطورة مثل الكهرباء.
أين الجانب الاقتصاديّ – الاجتماعيّ؟
– على غرار موازنة العام الفائت، تفتقر المسوّدة للخطّة الاقتصادية – الاجتماعية. بتعبير أوضح للقارىء: إذا كانت الحكومة ترى أنّ مصدر دخل البلاد الأكبر يتأتّى من السياحة مثلاً، فإنّ موازنتها – الخطة تكون موجّهة في مشاريعها وفي إنفاقها على تحسين البنى التحتية (كهرباء، ماء، شبكة طرقات، إنترنت…). وبينما إيراداتها من هذا القطاع متوازنة، تحفّز الفنادق والمقاهي وتحضّ البلديات على تنظيم القرى والمعالم السياحية… فيكون ذلك واضحاً وجليّاً بالأرقام وبالتوصيات. إلّا أنّ هذا الأمر مفقود كليّاً في المسوّدة المعروضة. فالموازنة الحالية المقدّمة من وزارة المالية عبارة عن عملية قيد حسابيّ للمصاريف والإيرادات بلا أيّ رؤية اقتصادية مستقبلية.
هذا يقودنا للقول إنّ قانون المالية العامة في لبنان برمّته بات بحاجة إلى مراجعة شاملة من أجل إحداث تغيير في عقلية وزارة المالية. والتحوّل من “موازنة البنود” التقليدية التي تعتمد صُوَريّاً على مبادىء التوازن، الشمولية، الوحدة، الشيوع، السنوية، إلى موازنات “البرامج” و”الأداء” الحديثة التي تهتمّ بشكل فعّال بمبادىء الشفافية، الفاعلية، التشاركية، الموثوقية، الاستقرار والمساءلة.
– زيادة منسوب الضرائب في الموازنة ستؤدّي حتماً إلى ضعف الاستثمار، وستؤثّر سلباً على الاستهلاك. الزيادة في ظلّ “اقتصاد الكاش” ستسهم كذلك في زيادة التهرّب الضريبي. وتعرّض لبنان أكثر فأكثر لخطر إدراجه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF). فهذه الزيادة المبالغ بها في منسوب الضرائب قد لا تزيد بالضرورة حجم الإيرادات مثلما هو متوخّى ومتوقّع. بل ستؤدّي مع الوقت إلى زيادة معدّلات الهجرة نتيجة تراجع الأعمال وتفاقم الأعباء والمصاريف التشغيلية.
– لم تلجأ وزارة المالية إلى مصادر بديلة عن الضرائب، مثل: الأملاك البحرية، مكافحة التهرّب الضريبي، وضبط المعابر البرّية والبحرية والجوّية، وتطبيق بعض القوانين التي أقرّها البرلمان ولم تُطبّق إلى الآن، مثل قانون سلامة السير، وقانون منع التدخين في الأماكن العامّة.