المصدر: أساس ميديا
الكاتب: عبادة اللدن
الأربعاء 4 أيلول 2024 07:45:23
يتهيّأ لوزارة المال أنّ مهمّة إعداد الموازنة العامّة باتت أسهل، بعدما تقلّصت المصاريف وتخلّصت من خدمة الدين، ولذلك تسارع إلى تقديمها إلى مجلس الوزراء في مطلع أيلول بلا عناء.
يحمل مشروع موازنة 2025 الموزّع على الوزراء نسبة عجز ضئيلة لا تتجاوز 4.1%. والفضل في ذلك لا يعود إلى حصافة الإنفاق، بل إلى التخلّص من عبء فوائد الديون الداخلية والجارية، بعدما وصل في ذروته إلى 5.4 مليارات دولار عام 2019، بينما لن تتجاوز 350 مليون دولار في 2025.
في شِقّ النفقات، يرفع مشروع الموازنة حجم الإنفاق الحكومي بنسبة 39% مقارنة بالإنفاق المعتمد في موازنة 2024، ليصل إلى 4.78 مليارات دولار (نحو 428 تريليون ليرة). لكنّ المقارنة الأجدى هي مع أرقام الإنفاق عام 2019، قبل الانهيار الشامل وإعلان تعثّر الدولة في سداد ديونها. وهنا ما يُلفت أنّ الإنفاق الملحوظ في موازنة 2025 لا يشكّل أكثر من 30% من إنفاق الدولة عام 2019، الذي كان في حدود 15.7 مليار دولار. لكن باستثناء مدفوعات الفوائد وسلفات الخزينة لـ “كهرباء لبنان” والمدفوعات المؤجّلة من موازنات سابقة، لم يكن إنفاق الدولة في 2019 يتجاوز 6.7 مليارات دولار. وهذا يعني أنّ الإنفاق المخطّط له في 2025، باستثناء مدفوعات الفوائد، يقارب ثلثي إنفاق الدولة في 2019. وهو ما يشير إلى الاقتراب من عودة المصروفات إلى طبيعتها، خصوصاً في ما يتعلّق بفاتورة الرواتب والأجور التي سترتفع بنحو 50% لتتجاوز 2.5 مليار دولار، ولو أنّها ما زالت تشكّل أقلّ من ثلثي الفاتورة نفسها في عام 2019.
تمويل التّوسّع في الإنفاق
لتمويل هذا التوسّع السريع في الإنفاق، تلحظ الموازنة قفزة كبيرة في الإيرادات بالمقارنة مع موازنة 2024، تفوق 101 تريليون ليرة (1.1 مليار دولار)، جلّها من الضرائب، لتصل إلى 410 تريليونات ليرة (4.6 مليارات دولار). وبذلك تطمح الموازنة إلى إبقاء توازن نسبي بين الإيرادات والنفقات، بحيث لا يتجاوز العجز الكلّي 4.1%، أو نحو 190 مليون دولار.
الملاحظ أنّ الجزء الأكبر من الزيادة المتوقّعة للإيرادات لا يعود، في الغالب، إلى فرض ضرائب أو رسوم جديدة، بل إلى ثلاثة عوامل:
– تحسين الجباية.
– استمرار دولرة الاقتصاد، بما تعنيه من رفع الفواتير والمداخيل الخاضعة للضريبة.
– رداءة تقديرات الإيرادات في موازنة 2025، عن قصد أو غير قصد.
من الواضح أنّ وزارة المالية تبني تقديراتها الجديدة للإيرادات على أساس أرقام الجباية الفعلية في 2024، مع إضافة جرعة من التحفّظ. وهذا ما دفعها إلى رفع توقّعاتها لحصيلة الضريبة على القيمة المضافة بنحو 39 تريليون ليرة (436 مليون دولار)، ورفع التقديرات لحصيلة ضريبة الأرباح من 17 إلى 29 تريليون ليرة، ورفع تقديرات ضريبة الرواتب والأجور بما يقارب 20 ضعفاً، من 431 مليار ليرة إلى 8.5 تريليونات ليرة!
مع كلّ ذلك ما زالت الإيرادات المتوقّعة في موازنة 2025 أقلّ بكثير ممّا كانت عليه قبل الأزمة. إذ إنّها لا تتعدى أكثر من 43% من الإيرادات الفعلية لموازنة عام 2019. ويلاحظ على وجه الخصوص أنّ إيرادات الضريبة على القيمة المضافة كانت تتجاوز 2.2 مليار دولار في 2019، بل إنّها قاربت 2.55 مليار دولار في 2018، في حين أنّ موازنة 2024 تقدّرها بـ 1.1 مليار دولار، أي أقلّ من نصف الإيرادات السنوية الطبيعية قبل الأزمة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ وزارة المالية متوقّفة عن نشر بيانات المتابعة الشهرية لأداء المالية العامّة منذ 2021، ولذلك أرقام الجباية غير متاحة للعموم.
لمن تبيع الدّولة سنداتها؟
في المحصّلة، يلحظ مشروع الموازنة عجزاً بنحو 196 مليون دولار، ويطلب إجازة اقتراض بالسندات المحلّية لتمويله. وهذا الرقم من الواضح أنّه متحفّظ، وكان بإمكان وزارة المال أن تهندس موازنة بصفر عجز، أسوة بموازنة العام الماضي، لكنّ الحكومة تريد أن تترك لنفسها فسحة لطلب إجازة الاقتراض.
لكنّ السؤال الكبير: لمن تبيع الدولة سنداتها؟ هل تبيعها لمصرف لبنان الذي يرفض إقراض الدولة بعدما بدّد أموال المودعين التي وظّفتها البنوك لديه؟ أم تبيعها لبنوك “الزومبي” التي لم تتّخذ أيّة خطوة لإعادة الهيكلة ومعالجة الخسائر؟
الإشكال في هذا المنحى أنّ الدولة تعود تدريجاً إلى نمط الإنفاق السابق من دون القيام بأيّ إصلاح ماليّ أو إداري، ومن دون أيّة خطوة لمعالجة أزمة المديونية المنسيّة (اليوروبوندز)، وأزمة الودائع. وهو ما يشير إلى وجود تفكير، باطني على الأقلّ، في طيّ صفحة الماضي، وأكل الحقوق المهملة فيها. إنّها عودة للعازفين فوق سفينة مثقوبة تغرق بهدوء.
والأسوأ من ذلك أنّ الحكومة تقيل نفسها من أيّة مسؤولية تنموية. إذ إنّ النفقات الاستثمارية في الموازنة تقلّ عن 10%، وهي في الغالب ستذهب للصيانة والعاجل من الأمور، ولا تحمل أيّ فكر لتحريك قطاعات الإنتاج وإعادة العجلة الاقتصادية، وكأنّ الأمر ليس من شأن الحكومة.
فوق ذلك، تتعايش الدولة مع وضعها المنبوذ خارج القطاع الماليّ الدولي، ولا ترى أنّ هناك ما يلحّ عليها لفتح التفاوض مع حاملي اليوروبوندز، أو الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لتتمكّن من العودة إلى أسواق الدين الخارجية.
إلا أنّ هناك جداراً ستصطدم به الدولة عاجلاً أم آجلاً مع استمرار تطبيع الإنفاق، لأنّ أيّ عجز سيتطلّب حتماً إمّا العودة إلى أسواق الدين الخارجية، وإمّا العودة إلى طبع الليرة، مع ما لذلك من تبعات على الاستقرار النقدي شهدت البلاد شيئاً من فصولها في السنوات الماضية.