موقع نهر الكلب الاثري

تدور في هذه الأيام نقاشات عقيمة حول موقع نهر الكلب والاخطار التي يمكن ان تنجم عن عملية البناء الضخمة التي يقيمها التيار الوطني الحر على تخوم الموقع الاثري. إلاّ ان هذه النقاشات اخذت ابعادًا سياسية ودخلت في بورصة التحركات والردود المتبادلة، في حين انه كان بالحري ان يُعالج الموضوع بطريقة علمية وتحت عمل المؤسسات المعنية، وتحديدًا مديرية الآثار، واطر القوانين المرعية الاجراء، ومنها القوانين المتعلقة بالمحافظة على الآثار، وبحماية مجرى نهر الكلب. وانطلاقًا من تخصصنا في مجال تاريخ الشرق الأوسط القديم، وتحديدًا مملكة جبيل الفينيقية خلال فترة العصر الحديدي (١٢٠٠-٣٣٣ ق.م.) والممتدة وقتذاك من نهر الكلب في الجنوب الى نهر الجويزة في الشمال، وجدنا من الضرورة تبيان أهمية هذا الموقع الجيواستراتيجي والتاريخي والاثري، لما في ذلك من دور محوري في تحديد ما يُحدق به من مخاطر، وما هي بالتالي الوسائل الناجعة للمحافظة عليه.

 تعود تسمية الموقع الى اسم مصب النهر المحاذي له، وهو "نهر الكلب". وهذا الاسم هو الترجمة العربية الخاطئة ل Flumen Lycos "نهر الذئب" التي اطلقها على هذا النهر الكاتب الروماني بلينيوس Plineالذي عاش في القرن الأول بعد الميلاد. خلال الحقبة القديمة، تمتع هذا الموقع بأهمية استراتيجية لافتة، ففي تلك الفترة لم يكن هناك من طريق ساحلي من جنوبي بيروت وصولاً الى مدينة جبيل، وكان ذلك عائدًا، ونتيجة لهطول الامطار وذوبان الثلوج، الى تشكّل المستنقعات من خلدة والشويفات مرورًا بضواحي بيروت الجنوبية والشرقية والشمالية وصولاً الى منطقة ساحل المتن. وكانت مدينة بيروت في تلك الفترة، والمحصورة في وسط المدينة اليوم، أشبه بجزيرة. وانطلاقًا من هذه المعطيات الجغرافية، شكّل الوصول الى موقع نهر الكلب الذي كان عبارة عن حاجز طبيعي يحول دون تمكّن الجيوش الغازية من السير نحو الشمال، هدفًا وحتى حلمًا لفراعنة مصر وأباطرة بلاد ما بين النهرين. وانطلاقا من هذه الأهمية، قام الفرعون رعمسيس الثاني، وعلى الأرجح بعد انتصاره على الحثيين في معركة قادش عام ١٢٧٤قبل الميلاد، بإقامة نقش له يُجسّد انتصاره المزعوم في تلك المعركة والتي نتج عنها تقاسمه وغريمه الحثّي مواتلي الثاني منطقة الساحل الشرقي للمتوسط عند نهر الكبير الشمالي الذي شكّل ولأقل من قرن من الزمن الحدود الفاصلة بين مصر الفرعونية في الجنوب والامبراطورية الحثّية في الشمال. بعد ذلك، وبهدف التشّبه برعمسيس الثاني الذي يُعتبر من اهم الاستراتيجيين في التاريخ، لم يتأخر بقية الملوك الغزاة عن إقامة نصب تحمل اساميهم وبعض انجازاتهم الى جانب نقش رعمسيس الثاني. ومن بين تلك النقوش، ذلك الذي أقامه الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني عند الضفة الشمالية لمصب نهر الكلب، وذلك على الأرجح بعد تدميره لمدينة اورشليم عام ٥٨٧ قبل الميلاد وقيامه بسبي اليهود الى بابل. وتكمن أهمية هذا الحدث في قيام اليهود، وخلال نفيهم الى بلاد ما بين النهرين، بكتابة الجزء الأكبر من كتابهم المقدس، والذي تكرّست فيه وحدوية الإله.

 

في القرن التاسع عشر، لعب الفرنسيون، ونتيجة للعلاقات المتميزة التي جمعتهم باللبنانيين، وخاصةً المسيحيين منهم، دورًا محوريًا في تبيان نقوش نهر الكلب. إذ وفي النصف الأول من ذلك القرن، قام الدبلوماسي الفرنسي هنري غيز Henri Guys بالكشف عن كامل  نقوش نهر الكلب، مؤرخًا لعمله هذا في رسالة أرسلها الى باريس في ٥ كانون الأول عام ١٨٣٥. وخلال فترة المجازر التي اندلعت بين العامين ١٨٦٠ و١٨٦١، وبعد قيام الامبراطور الفرنسي نابوليون الثالث بإرسال حملة عسكرية للتخفيف من وطأة المجازر على المسيحيين، قام الامبراطور الفرنسي بحفر نقش له يؤرخ لتدخله العسكري هذا. إلا انه وللأسف أقام نقشه هذا على نقش كان قد وضعه الفرعون رعمسيس الثاني ايضًا في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وبعد تلك الفترة زاد اهتمام الفرنسيين بتاريخ لبنان القديم، وعملوا على تبيان المعطيات العائدة الى الحقبة الفينيقية الممتدة ما بين العامين ١٢٠٠ و٣٣٣ قبل الميلاد. وكان لهذا الاهتمام الفرنسي دورًا في تعزيز الهوية اللبنانية والانتماء الى وطن فريد ومتمايز عن جواره.

إلاّ انه ومع إقامة هذه النقوش والنصب والعائدة منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد الى عام ٢٠٠٠، أي النصب الذي يؤرخ لانسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، تحول موقع نهر الكلب، وكما وصفه عالم الآثار الفرنسي ليون دو لابورد Léon De Laborde عام ١٨٣٧ بمتحف في الهواء الطلق. وليس هناك من أي موقع شبيه في العالم يحتوي على ٢٢ نصبًا يتضمن مخطوطات مكتوبة وفق ثلاث أنظمة كتابة، هيروغليفية، مسمارية، وابجدية، وفي ثماني لغات، وعائدة الى فترة ممتدة من أوائل القرن الثالث عشر قبل المسيح الى العام ٢٠٠٠ بعد المسيح. إلا ان الموقع، وللأسف، معرّض لأخطار عديدة منها ما هو ناتج عن التلوث العائد الى وجود الطريق السريع الذي يربط شمال لبنان بالعاصمة بيروت، والى تعرّض النصب والنقوش لهواء البحر واشعة الشمس. هذا فضلاً عن الاضرار البشرية الناتجة عن تشويه بعض النصب كما عن رمي النفايات وبقايا الطعام. ويُضاف أخيرًا الى هذه الاضرار ما يمكن أن ينتج عن تشييد التيار الوطني الحر لمبناه المركزي بمحاذاة الموقع.

 نظرًا لأهمية موقع نهر الكلب الاثري، وانطلاقًا من الاخطار المحدقة به او التي يمكن ان تصيبه في المستقبل، لا بدّ من إطلاق حملة وطنية بعيدة عن الحسابات السياسية الضيقة للبحث في الآليات المناسبة لحماية الموقع، والتي تبدأ بنشر الوعي الثقافي بين تلاميذ المدارس والجامعات، تهدف الى إبراز أهمية الموقع في تاريخ لبنان المديد وفي تكوين هوية لبنان. ومن بين الآليات الضرورية ايضًا تكثّيف الدراسات العلمية المتعلقة بكيفية تخفيف الاضرار وحماية النقوش وتحسين الموقع، والتي تُشرف على بعضها مشكورة المديرية العامة للآثار. تكمن أهمية أيجاد تلك الآليات واعتماد هذه الحلول، وتحت سقف المؤسسات والقانون، في أنها تشكّل، وبالإضافة الى فرادة الموقع، العناصر المطلوبة التي يمكن للبنان الاعتماد عليها لتقديم طلب جديد الى منظمة الاونيسكو بهدف إدراج الموقع على لائحة التراث العالمي.