نحن في 1969 أو في 1975؟

للّبنانيين ذاكرة مؤلِمة مع تواريخ ومحطات منذ العام 1948، وصولاً إلى اليوم. أكثر من سبعين عاماً، وما زال لبنان في قلب المعاناة، يدفع أثماناً باهظة لحروب ونتائج حروب، أحياناً لا ناقة له فيها ولا جمل.

في الأعوام 1947 و1948 و1949، بدأ لبنان يدفع ثمن تهجير اليهود للفلسطينيين، ويتحمَّل العبء الأكبر. أُنشئت مخيمات للنازحين الفلسطينيين الذين تحوّلوا لاحقاً، ومع مرور الوقت إلى لاجئين، وكانت هذه المخيّمات على أملاك الدولة اللبنانية وعلى أراضٍ للكنيسة وللرهبانيات، وكان الجواب الدائم عن كل التساؤلات: "الإقامة موقتة، والعودة قريبة".

بعد عشرين عاماً، ثبُتَ أن وعود العودة كانت سراباً. فبدلاً من تنظيم العودة، كانت موجة نزوح جديدة بعد "نكبة حزيران" التي احتُلَّت فيها أراضِ عربية جديدة في مصر وسوريا وفلسطين، نال لبنان نصيبه من نازحين فلسطينيين جدد انضمّوا إلى نازحي أواخر الأربعينيات.

بعد نكبة حزيران 1967، اتّخذ الفلسطينيون قراراً بتنظيم العمل المسلّح عبر الدول التي لها حدود مع إسرائيل. والسبب في ذلك يعود إلى "يأسهم" من إمكان أن تتولّى الدول العربية "تحرير فلسطين".

الخاصرة الرخوة كانت لبنان حيث وجد الفلسطينيون "بيئة حاضنة" (كم أنّ التاريخ يعيد نفسه ولكن مع النازحين السوريين!).

كانت النكسة الأكبر بين الفلسطينيين والجيش اللبناني، بدءاً من نيسان 1969، وكانت تجاوزاتهم أكثر من أن تُحصى.

 

"البيئة الحاضنة" للفلسطينيين ضغطت في اتجاه اتفاقٍ معهم، شكَّل المسمار الأول في جسد السيادة اللبنانية، فكان "اتفاق القاهرة" الذي سمح للفلسطينيين بأن ينطلقوا من جنوب لبنان لشن عمليات ضد إسرائيل.

هذا الإتفاق الذي نفض جميع المسؤولين اللبنانيين أيديهم منه، لم يكن له مثيلاً في الدول العربية التي لها حدود مع إسرائيل، لا في مصر ولا في سوريا ولا في الأردن، وحدَه لبنان تمتَّع بهذه "الميزة" بفضل تهاون البعض ومزايدة البعض الآخر.

جاء ما سمِّي "أيلول الأسود" في الأردن، حاولت منظمة التحرير أن "تروِّض" المملكة، لكن السِحر إنقلب على "الساحر" ياسر عرفات. تمَّ "ترحيل" منظمة التحرير من الأردن إلى سوريا التي رفضت استقبالهم وحوّلتهم إلى لبنان الذي تلقّى موجة النزوح الثالثة بعد 1948 و1967.

الانفجار الكبير كان عام 1975. أصبح الفلسطينيون دولة داخل دولة، وكل المعالجات جاءت متأخرة.

2011 يشبه 1948

2023 يشبه ما بين 1969 و1975.

النازحون الفلسطينيون تحوَّلوا إلى لاجئين، لديهم مؤسساتهم ومخيّماتهم و"جيوشهم".

النازحون السوريون على الطريق: لديهم مخيماتهم، ويحظون برعاية منظمات دولية، تمويلاً وتطبيباً وتعليماً، فلماذا يعودون إلى وطنهم؟

لئلا يخسر لبنان سيادته مرةً ثانية، قد تكون الأخيرة، لا بد من ألا تكون سنة 2023، تكراراً لسنة 1975، حين انفجرت الحرب اللبنانية - الفلسطينية، ولا أن تكون تكراراً لسنة 1969، حين باشر الفلسطينيون بناء دولةٍ ضمن دولة.

من غير المسموح أن تكون هناك "بيئة حاضنة" أو "بيئات حاضنة" للنازحين السوريين الذين تجاوز عددهم نصف عدد الشعب اللبناني، وأعباؤهم ليست على منطقة واحدة أو طائفة واحدة، بل على كل المناطق وعلى كل الطوائف، أما "المزايدات في الإنسانية" فلا تخدم المزايدين بل تنعكس سلباً على كل الطوائف والمناطق.

ولإنعاش الذاكرة، فإنّ معظم النازحين السوريين لا تنطبق عليهم بنود "اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1951 وبروتوكول عام 1967 الخاصَّيْن بوضع اللاجئين"، وإذا أراد لبنان المطالبة بإعادة النازحين السوريين إلى بلدهم، فما عليه سوى تفعيل هذه الإتفاقية وتطبيقها، ولديه من الإعتبارات ما يسهِّل عليه هذه المهمة، خصوصاً بعدما تسلّم الجيش اللبناني، عبر مديرية المخابرات، ملف النازحين السوريين، لجهة المخالفات، بمعنى أنّ أي فرد مخالف يقيم من دون أوراق رسمية وإقامات، سيتمّ توقيفه وتسليمه فوراً الى الجهة المختصة من أجل ترحيله إلى سوريا.

إذا أعاد التاريخ نفسه هذه المرة، فسيدخل البلد في غياهب... التاريخ.